الباب التاسع الحياة التى ننشدها



الباب التاسع الحياة التى ننشدها

كتب ( فردريك أنجلز) :
(لابد للإنسان أن يجد لباسا يستر به جسده وخبزا يشبع به بطنه حتى يستطيع الخوض فى الفلسفة والسياسة).
والواقع إن الأسئلة الأولى التى يسعى الإنسان إلى معرفة جواب عنها فى حياته هى :

من أنا ؟
وما هذا الكون ؟
وكيف بدأت حياتى ؟
وإلى أين ستنتهى ؟
إنها أسئلة الفطرة الأساسية . فالإنسان يفتح عينيه فى عالم يحوى كل شيء غير جواب هذه الأسئلة ؛ فالشمس توصل إليه الحرارة اللازمة ولكن الإنسان غافل عن حقيقتها وعن أسباب قيامها بهذه العملية لخدمته ، والهواء يعطى الحياة للإنسان ولكن الإنسان غير قادر أن يؤثر فيه ليجيب عن السؤال : من أنت ؟ ولماذا تقوم بهذا العمل ؟
إنه يمعن فى وجوده ولكنه لا يفهم من هو ؟ ولماذا جاء إلى هذه الدنيا ؟ .
والذهن الإنسانى غير قادر على وضع إجابات هذه الأسئلة الأساسية فى حياة البشر ، ولكنه لن يتخلى عن بحته ، ولن يمل هذا البحث عن جواب .
هذه الأسئلة وإن وردت ألفاظا على ألسنة الجماهير ، فإنها تؤلم روحها ، وهى ترد أحيانا بطريقة يصاحبها الإنفعال حتى يصبح الإنسان مجنونا .
* * *
لقد عرفنا أنجلز مفكرا ملحدا ، ولكن إلحاده أتى عن طريق المجتمع المصاب بالبلبلة وعدم الإستقرار . لقد كان شغوفا بالدين ، وكان يقضى وقتا طويلا بالكنيسة ؛ ولكنه بعد ما كبر وتوسع نظره فى الدراسة أعرض عن الدين التقليدى. وهو يكتب أحوال هذه الفترة فى خطاب له إلى أحد أصدقائه ، قال :
(إننى أدعو كل يوم وأقضى اليوم كله داعيا أن تنكشف لى الحقيقة . لقد أصبح الدعاء هوايتى منذ وجدت الشكوك طريقها إلى قلبى ؛ إننى لا أستطيع أن أقبل عقائدكم إن قلبى يفيض بالدموع الغزار وأنا أكتب هذه السطور ، قلبى يبكى عينى تبكى ولكننى أشعر أننى لست بطريد من رحمة الله بل آمل أن أصل إلى الله الذى أتمنى رؤيته بكل قلبى وروحى وأقسم بحياتى أن عشقى وبحثى هذا لمحة من روح القدس . ولن أقلع عن تفكيرى هذا ولو كذبه الإنجيل المقدس عشرة آلاف مرة !! )
لقد أقلقت غريزة البحث عن الحق روح أنجلز الشاب ، ولكن الدين المسيحى التقليدى لم يمنحه السكينة التى كان ينشدها فانقلب متمردا عليه وانغمس فى الفلسفات السياسية والمادية الإلحادية .
* * *
وجذور هذه الغريزة الإنسانية هى إحساس البشر بحاجتهم إلى الرب الخالق ؛ ففكرة : ( الله خالقى وأنا عبده منقوشة فى اللاشعور الإنسانى وهى ميثاق سرى مأخوذ على الإنسان منذ يومه الأول وهو يسرى فى كل خلية من خلايا جسمه ؛ وعندما يفتقد إنسان ما هذا الشعور يحس بفراغ عظيم ؛ وتطالبه روحه من أعماقه أن يبحث عن إلهه الذى لم يره قط ، والذى لو وجده لخر راكعا على ركبتيه ، ثم ينسى كل شيء . وليس الإهتداء إلى معرفة الله غير الوصول إلى النبع الحقيقى لهذه الفطرة الإنسانية ، والذين لا يهتدون إلى المعرفة يقبلون على أشياء أخرى . فإن كل قلب يبحث عمن يهدى إليه خير أمانيه .
* * *
وعندما عندما رفرف العلم الوطنى لأول مرة على الأبنية الحكومية فى الهند بدلا من العلم البريطانى :" اليوناك جاك" ، فى صباح 15 أغسطس 1947 – اغرورقت عيون كثيرة بالدموع ، وهى ترى الصورة التى طالما حلمت بها . وكانت هذه الدموع مظهرا لعلاقة أصحابها "بالمعبودة الحرية " التى ضحوا من أجل الحصول عليها بخير أيام حياتهم .
وهكذا عندا يذهب زعيم وطنى إلى أبى الوطن ثم يقف أمامه لحظة مطأطئا رأسه ، فهو حينئذ يباشؤ نفس العمل الذى يقوم به المؤمن أمام معبوده ، حين يركع ويسجد .
وحين يمر شيوعى أمام تمثال لينين ويرفع قبعته عن رأسه ، ويبطىء فى سيره يكون هو الآخر مثل رجل الدين ، يقدم أحسن تمنياته إلى إلهه . فكل إنسان مجبور على أن يتخذ شيئا ما إلها له ، ويقدم له قرابين أمانيه الصادقة .
ولكن الإنسان إذا قدم هذه القرابين لغير الله ، فهو يشرك بمن يستحق وحده العبادة ... و " إن الشرك لظلم عظيم "
(215) ، والظلم أن تضع الشيء فى غير موضعه ، فلو كنت تريد أن تتخذ من غطاء الوعاء قبعة فهو " ظلم " ، والإنسان عندما يميل لغير الله لملء فراغه النفسى ويتخذ من غير الله ملجأ له ، فهو ينحاز عن مكانه الصحيح ، ويتخذ من مكانته أسوأ أسياب الضلال
ولما كانت هذه الغريزة فطرية ، فإنها تظهر دائما فى صورتها الطبيعية متجهه إلى الله ، ولكن المجتمع وأحوال البيئة يعطيان هذه الغريزة اتجاها مغايرا ، فتبدأ الشكوك تساور الإنسان فى أول الأمر ، ولكنه سرعان ما يتخلص من هذه الشكوك عمدا او عفوا ، لأنه يتمتع بحرية أكثر فى الحياة الجديدة فيرضى بها ولو ظاهريا .
* * *
لقد كان ( برتراند راسل) شديد العلاقة بالدين فى أول حياته وكان يواظب على حضور صلوات الكنيسة باهتمام ، وفى يوم من الأيام سأله جده : ما تكون دعواتك المفضلة يا (برتى ) ؟
فأسرع الشاب برتراند راسل يقول : ( لقد سئمت الحياة ، وأنا مدفون تحت وطأة ذنوبى – يا إلهى !(
وعندما جاوز برتراند 13 من عمره بدأت خواطر التمرد تراود ذهنه بفعل البيئة التى أحاطت به ، إلى أن تحول ذلك الطفل المواظب على صلوات الكنيسة فأصبح من بعد : برتراند راسل الفيلسوف الملحد الذى لا يؤمن بالحقائق السماوية .
وقد أجرت الإذاعة البريطانية حديثا معه عام 1959 ، وعندما سأله (فرى مان )- المعلق السياسى بالإذاعة - : (هل وجدت أن هواية الإشتغال بالرياضيات والفلسفة يمكن أن تحل محل المشاعر الدينية عند الإنسان ؟ ) ، أجاب ( راسل ) قائلا : ( نعم لقد وصلت فى سن الأربعين إلى الطمأنينة التى قال عنها أفلاطون : إنه يمكن الحصول عليها من طريق الرياضيات إنها عالم أبدى ، حر،لا يقاس بزمان ولقد حظيت فى هذا العالم بسكينة تشبه تلك التى يحصلون عليها فى الدين).
لقد أنكر هذا المفكر البريطانى حقيقة المعبود السماوى ولكنه لم يستطع الإستغناء عن ضرورتها القصوى بسبب غريزته الفطرية التى ولدبها الإنسان فجاء بالرياضيات والفلسفة ، وأجلسهما فى المقعد المخصص لله وحده بل اضطر أن يخلع على الرياضبات والفلسفة نفس الصفات التى ينفرد بها الله سبحانه ،وهى : الأبدية ، والتحرر من أبعاد الزمن والسر فى ذلك أنه لا يمكن الحصول بدونهما على الطمأنينة التى يبحث عنهما الإنسان .
* * *
" جواهر لال نهرو فى حالة الركوع ! " لو كانت الصحف قد نشرت هذا الخبر فى يوم من الأيام لما صدقها الناس ! ولكن الصورة التى تحملها الصفحة الأخيرة من جريدة ( هندوستان تايمز) ، الصادرة فى دلهى يوم 3 أكتوبر من عام 1963 ، تصدق هذا الخبر . وقد ظهر فى تلك الصورة رئيس وزراء الهند الأسيق فى حالة ركوع واقفا أمام ضريح المهاتما غاندى فى ذكرى ميلاده وهو يقدم تمنياته إلى ( أبى القومية الهندية ! ).
إن مثل هذه الأحداث تقع كل يوم فى كل مكان من العالم وآلاف من الناس الذين ينكرون وجود الله يركعون أمام معبوداتهم تسكينا لغريزنهم التعبدية وذلك لأن ( الإله ) ضرورة فطرية للإنسان وهذه المظاهر كافية لتأييد هذه الغريزة على أمها طبيعية ، لأن الإنسان يضطر إلى الركوع أمام آخرين كثيرين إذا ما امتنع عن السجود أمام ( الله الواحد ) ؛ أى أن فطرته لن تتمكن من ملء الفراغ الذى يخلو عند إنكار وجود الله والإلحاد .
* * *
وليست الحقيقة أن يتخذ الإنسان آلهة آخرين عند الكفر بالله ، فيسكن غريزته ، بل سوف أقول : إن الذين يتخذون من غير الله إلها محرومون من الاستقرار والطمأنينة الحقيقيين ، كالطفل اليتيم الذي يحاول أن يتخذ من مصنوعات البلاستيك ( أما ) له .
وكل ملحد ، مهما بدا له أو للآخرين ، أنه ناجح ، يتعرض فى حياته لمواجهة لمحات يضطر إزاءها أن يفكر فيما إذا كانت الحقيقة التى قبلها _ مصطنعة وزائفة ؟
* * *
وعندما ختم ( جواهر لال نهرو ) سيرته الذاتية سنة 1935 أى قبل 12 عاما من استقلال الهند ، كتب فى خاتمتها قائلا :
( إننى لأشعر أن فصلا من حياتى قد انتهى ، وأن فصلا آخر على وشك البدء ، ترى ماذا سيحوى هذا الفصل ؟ لا يستطيع أحد أن يتنبأ به ؛ فإن أوراق الحياة القادمة مختومة ( .
وعندما ظهرت الأوراق الأخرى من حياة نهرو وجد نفسه رئيسا لوزارة ثالث كبريات دول العالم يحكم سدس المعمورة بدون شريك . ولكن "نهرو" لم يقتنع بهذا بل ما زال يشعر ، وهو فى أوج بروزه السياسى ، أن هناك فصولا أخرى من كتاب حياته لما تفتح .
لقد كان يعتمل فى قرارة ذهنه نفس السؤال الذى يولد معه الإنسان ، فقد قال نهرو وهو يخاطب مؤتمر المستشرقين الذى انعقد فى دلهى فى يناير من عام 1964 والذى اشترك فيه ألف ومائتان من الممثلين من جميع أرجاء العالم قال :
( إننى سياسى ، ولا أجد وقتا كثيرا للإمعان والتفكير . ولكننى أضطر فى بعض الأحيان أن أفكر : ما حقيقة هذه الدنيا ون نحن ؟ وماذا نقوم به ؟ إننى على يقين كامل أن هناك قوى تصوغ أقدارنا ) ( 216) .
وهذا هو الشعور بعدم الطمأنينة الذى يسيطر على أرواح الذين يكفرون بالله معبودا لهم ، ويخيل إليهم فى غمرة الملذات المؤقتة والأعمال الدنيوية الشاغلة أنهم قد ظفروا بالإستقرار ... ولكنهم لا يلبثون أن يحسوا مرة أخرى بأنهم محرومون من الطمأنينة والسعادة والإستقرار .
وهذه الحالة التى تنعدم فيها الطمأنينة والإستقرار لدى القلوب المحرومة من رحمة الله ليست مسألة أيام هذه الحياة المؤقتة وسنيها وإنما هى أهم من ذلك بكثير .
إنها مسألة أزلية وأبدية ، تتمثل فيها آثار الحياة المعتمة الحالكة ، التى يقف على حافتها هؤلاء الأصحاب
إنها البادرة الأولى لحياة الخنق الأبدية ، التى سوف يواجهونها بعد موتهم دون شك .
إنها أجراس التنبيه الأولى فى حياتهم ، تنذرهم بالأحوال الرهيبة والظروف المروعة التى سوف تمر بها أرواحهم .
وهى دخان من الجحيم الذى لا بد لهم أن يخلدوا فيه .
ولو أن النيران شبت فى منزل أحدهم فقد ينبهه الدخان الذى سيدخل فى أنفه إلى الخطر الوشيك وهو يستطيه أن ينقذ نفسه لو استيقظ فى الوقت المناسب ، ولكن حين تمسك ألسنة النيران بسريره فسيكون الأوان قد فات .
( ولات حين مناص) ، بل هو الهلاك الذى يحيط به من كل جانب ، فقد قدر له أن يحترق فى النيران لبلادة حسه وجهالته من أمره .
ترى ، هل يستيقظ الناس فى إبان النجاة ؟
فإن اليقظة النافعة هى التى تكون قبل فوات الأوان ، واليقظة عند الهلاك والدمار لا تمنح صاحبها غير القرار فى قاع البوار.
* * *
كتب البروفيسور " مايكل بريتشر" ترجمة لحياة "نهرو" – وقد سأل المؤلف نهرو فى لقاء له معه بنيو دلهى فى 13 يونيو من عام 1956 :
( ما المقومات اللازمة لبيئة صالحة طبقا لفلسفتكم الأساسية فى الحياة ؟).
أجاب رئيس الوزراء الأسبق قائلا :
( أننى أؤمن ببعض المعايير ، قل إنها المعايير الأخلاقية ، ولا بد لكل فرد وبيئة من التمسك بها وعند القضاء على هذه المعايير لا يمكنك الوصول إلى نتائج مفيدة ، رغم إحراز التقدم المادى الهائل ، وأما " سبل " إقامة هذه المعايير والإحتفاظ بها فى المجتمع ، فإننى لا أعرفها ، وهناك نظرة دينية لإقامة هذه المعايير ولكنها تبدو لى ضيقة جدا مع كل طقوسها وطرقها فأنا أهتم اهتماما كبيرا بالقيم الأخلاقيى والروحية بعيدا عن الدين ولكننى لا أعرف كيف يمكن الحفاظ على هذه القيم فى الحياة الجديدة إنها لمشكلة )( 217)
وهذا السؤال وجوابه يبينان بوضوح الفراغ الذى يواجهه الإنسان بشدة فى حياته ، فإن إقامة القيم والمعايير الأخلاقية من أهم ضرورات كل مجتمع ، حتى يتاح له جو الإستقرار لمواصلة مسيرة الحضارة . ولكن الإنسان ، بعد أن خذل الإله ، أخذ يخبط خبط عشواء بحثا عن هذه المعايير وسبل إقامتها فى حياة أفراد المجتمع . ولا يزال الإنسان رغم مئات السنين التى مضت فى أولى مراحل بحثه عن هذه المعايير المجردة عن الدين ...
إنهم يحتفلون ، مثلا ، بأسبوع الكرم Courtes week لإذابة الحواجز بين الشعب والحكام ولكن العقلية البيروقراطية لا تذوب عند المسئولين رغم كل الجهود التى تبذل فى هذه المناسبات باسم الأخلاق .
ويعلقون على المحطات وداخل عربات القطارات لا فتات كبيرة تقول : ( إن السفر بدون تذكرة جريمة اجتماعية ) – ولكن نسبة السفر بدون التذاكر لا تقل بل تزداد يوما بعد يوم . وذلك يثبت أن عبارة ( جريمة إجتماعية ) غير كافية لتحريك ضمير الفرد ، والحفاظ على النظام ( 218 ).
إنهم يبذلون جهودا ضخمة للتنفير من الجرائم عن طريق الصحافة ، قائلين مثلا :
(الجريمة لا تفيد ) Crime does not Pay. ولكن النسبة المرتفعة للجرائم ، يوما بعد آخر ، دليل على إن ( عواقب الجريمة ) فى الدنيا ليست رادعة حتى تمنع المجرمين من القيام بجرائمهم .
وكثيرا ما طبعوا على جدران المكاتب عبارات تقول : ( إن تقديم الرشوة وقبولها ذنب ) ولكن المرء عندما يشاهد أن جرائم الرشوة تمضى فى طريقها على قدم وساق ، بمشهد من هذه العبارات نفسها يضطر إلى إن يعترف بأن الدعاية الحكومية لن تستطيع أن تمنع هذه الجريمة الإجتماعية القبيحة .
إنهم يكتبون فى كل عربة من عربات القطار :( إن القطارات ملك للشعب ، وإلحاق أى ضرر بها جريمة ضد الشعب)
ولكن المسافرين فى نفس هذه العربات يسرقون لمباتها الكهربائية الرخيصة ويحطمون زجاجها وربما يتورون فيشعلون فيها النيران . وهو دليل على : أن فائدة الشعب ليست بأقوى من فائدة الفرد !! ...
إن كبار الزعماء والسياسيين يعلنون فى خطبهم : " أن استغلال الوسائل الحكومية لصالح الأغراض الفردية خيانة فى حق الشعب والدولة " . ولكن المشروعات الكبرى تفشل فى تحقيق أهدافها لأن النسبة الكبرى من الميزانيات المقررة تأخذ طريقها إلى جيوب المسئولين القائمين بأمر هذه المشروعات ، بدلا من إنفاقها فى مكانها الصحيح ، وهكذا اختفت المعايير والقيم من الحياة القومية ، رغم كل الجهود التى بذلت من جانبى المصلحين والزعماء وباءت كل الوسائل التى استخدموها بالفشل الذريع( 219)
هذه الظواهر هى فى الواقع دلائل على أن الحضارة الإلحادية قد انتهت بركب البشرية إلى الوحل ، وقد ضللتها عن طريقها ، التى لم يكن منها بد لمواصلة المسيرة ولا حل لهذه الأزمة إلا بالرجوع إلى الله ، والتسليم بأهمية الدين للحياة فهو الأساس الوحيد الذى يساعد على النهوض بالحياة البشرية على خير وجه ، وليست ÷ناك من أسس أخرى .
* * *
كتب البروفيسور "تشسترباولز" (220) السفير الأمريكى الأسبق لدى الهند يقول :
( إن الدول النامية تواجه مشكلات من نوعين فى طريق نهضتها الصناعية . والنوعان معقدان غاية التعقيد فأما أولهما فهو مشكلات الحصول على رأس المال والمواد الخام والخبرة الفنية وطرق استخدامها أفضل استخدام . وأما النوع الثانى من هذه المشكلات فيتعلق بالشعب والإدارة الحكومية فعلينا قبل المضى فى ثورتنا الصناعية أن نتيقن أن هذه الصناعة لن تخلق مشكلات أكثر مما تقضى عليه من المشكلات فعلا . ) ومن كلمات المهاتما غاندى : ( إن المعلومات العلمية والكشوف سوف تزيد من شراهة الإنسان على حين أن الإنسان هو الشيء الأهم من كل الأشياء ) . ( 221)
فالشعب مجتمع يخضع للبرامج التقدمية ولكن عناصر التقدم وهى رأس المال والخبرة الفنية لا تجدى نفعا فى مجتمع يسوده الفراغ السياسى والحضارى ( 222) .
ما الطريق لسد هذا الفراغ لبناء مجتمع يضطلع فيه الشعب والحكام . كل بواجبه لرفع شأن البلاد ؟
إنه سؤال بدون جواب لدى المفكرين المحدثين والحق أن الإنسان لن يستطيع الوصول إلى جوابه فى ظل المجتمع الإلحادى . فكل مشروع تقدمى يصاب بتناقض مثير يتجلى فى أن العقائد الشخصية لدى أفراده تخالف العقيدة الإجتماعية . فبرنامج التقدم الإجتماعى مثلا يهدف إلى إقامة مجتمع رفاهى يتمتع بالأمن والسلام ، ثم يقول المفكرون : ( إن هدف الإنسان الأساسى هو الحصول على السعادة المادية ! ) فهم بذلك ينكرون المبدأ الأول لبرنامجهم لأنهم يحرضون الأفراد على عمل هو عكس ما يحتاج إليه المجتمع .
ويرجع هذا التناقض إلى أن برنامجا من هذا النوع لم يحقق أهدافه إلى يوم الناس هذه ، وفشلت جميع الفلسفات المادية للنهوض بالحياة الإجتماعية .
إن معنى الحصول على السعادة المادية هو أن يسعى الإنسان بكل قواه إلى تحقيق كل ما تصبو إليه أمانيه ، ولكن تحقيق الأهداف الشخصية ، فى هذا العالم المحدود ، لا طريق إليه دون التأثير على الآخرين . ولذلك فعندما يسعى الفرد إلى تحقيق مطالبه يتحول إلى رزء بالنسبة للآخرين .. فأمنية الفرد تدمر أمانى المجتمع . وحين يجد قرد ، يتقاضى مرتبا بسيطا ، أن موارده لا تكفى لتحقيق سعادته الشخصية فإنه يسعى إلى تحقيق ذلك بكل الصور الممكنة ، حتى ليقدم على السرقات والرشاوى والغش ، والتزوير ، الإستيلاء على حقوق الغير بالقوة ... وعندئذ يبدأ المجتمع فى أن يعانى نفس المشكلات التى كان يعانى منها أحد أفراده .
* * *
إن العالم الحديث يعانى من مشكلة ، لم يجربها الإنسان طوال تاريخه هى مشكلة ( جرائم الأطفال ) ، التى أصبحت جزءا من المجتمع الحديث ! . من أين يأتى هؤلاء المجرمون الصغار ؟ إنهم ضحايا ( السعادة المادية ) ... فكثير من الفتيان والفتيات يسأمون حياة الزواج بعد وقت قليل ، وحينئذ يبدأون فى البحث عن وجوه وأجساد جديدة ويحصلون على الطلاق ، بيد أن المجتمع هو الذى يدفع ثمن الطلاق حين يلملم فى رحابه ( أطفالا يتامى فى حياة آبائهم وأمهاتهم ) ، وما دام المجتمع المنحل هو الآخر لا يستطيع أن يهيء لهؤلاء الأطفال الطعام واللباس والمأوى فهم أحرار من كل قيد ، وهم ثائرون على المجتمع الذى أنجبهم . وتبدأ هذه الحال بالصعلكة ثم تنتهى إلى الجرائم القذرة التى كانوا ثمرتها .
ولقد صدق السير ( ألفريد ديننج ) فى مقاله ( إن أكثرية المجرمين الأطفال غير البالغين تخرج من أنقاض أسر محطمة ( 223 ) . هذا التناقض بين الفلسفة الإجتماعية وأهداف الأفراد هو أصل كل المشكلات الإجتماعية ، فجميع الحوادث التى نسميها فى قواميسنا (جريمة وذنبا ) هى محاولة قوم للحصول على أمانيهم الذاتية فى الحياة بعد أن أخفقوا فى تحقيقها لسبب أو آخر . وهذه الحوادث تظهر فى أغلب الأحيان فى صور : الإغتيال ، والخطف ، والتدليس ، والتزوير ، والقرصنة ، والحروب ، والزنا ، وما إلى ذلك من الجرائم التى تعانى منها الإنسانية .
وهذا التناقض يبين بجلاء أن هدف الحياة الأساسى هو الحصول على رضا الله فى الآخرة ، لا غير .
إنه هو الهدف الوحيد الذى يمكنه إنقاذ المجتمع والفرد من التناقض الكبير ، والسير بهما فى طريق الرخاء والسعادة المتبادلة لأن الفرد فى هذا الهدف لا يصادم أمانى المجتمع ، بل يشترك فى كفاحه بطريقة إيجابية فعالة .
فميزة نظرية ( الآخرة ) تأكيدها على أنها هى الأساس الوحيد لنجاح المشروعات الإجتماعية فى حين تبين فى نفس الوقت ، أنها هى الهدف الوحيد للإنسان الفرد أيضا ، لأ أى شيء لا علاقة له بالواقع لا يمكنه أن يصبح بهذا القدر العجيب من الأهمية ، والموافقة لأهداف البشرية.
* * *
لقد تقدم الطب الحديث والجراحة إلى أقصى حدودهما فى هذا القرن وبدأ الأطباء يقولون : ( إن العلم يستطيع القضاء على كل مرض غير الموت والشيخوخة ) !! . ولكن الأمراض تكثر وتتشعب ، وتنتشر بسرعة مذهلة ومنها ( الأمراض العصبية ) التىهى نتائج أعراض التناقض الشديد الذى يمر به الفرد والمجتمع .
لقد حاول العلم الحديث أن يغذى كل الجوانب المادية فى الجسم الإنسانى ولكنه فشل فى تغذية الشعور والأمانى والإرادة ، وكانت حصيلة ذلك جسما طويل القامة ممتلىء النواحى ولكن الجانب الآخر من الجسم وهو أصل الإنسان أصبح يعانى من أزمات لا حد لها .
لقد أكدت إحصائية : أن ثمانين فى المائة من مرضى المدن الأمريكية الكبرى يعانون أمراضا ناتجة عن الأعصاب من ناحية أو أخرى ، ويقول علماء النفس الحديث : إن من أهم جذور هذه الأمراض النفسية : الكراهية والحقد والجريمة والخوف والإرهاق وايأس والترقب والشك والأثرة ، وغلإنزعاج من البيئة . وكل هذه الأمراض تتعلق مباشرة بالحياة المحرومة من الإيمان بالله .
إن هذا الإيمان بالله يمنح الإنسان يقينا جبارا ، حتى يستطيع مواجهة أعتى المشكلات والصعاب ، فهو يجاهد فى سبيل هدف سام أعلى ، ويغض بصره عن الأهداف الدنيئة القذرة .
إن غلإيمان بالله يعطى الإنسان محركا هو أساس سائر الأخلاق الطيبة ، ومصدر قوة العقيدة ، العقيدة التى عبر عنها ( السير وليام أوسلر) بقوله ( إنها قوة محركة عظيمة لا توزن بأى ميزان ، ولا يمكن تجربتها فى المعامل ) .
إن هذه العقيدة هى سر مخزن الصحة النفسية الموفورة التى يتمتع بها أصحابها ، وأية نفسية محرومة من هذه العقيدة لن تنتهى إلا بالأمراض أقساها وأعتاها .
ومن شقوة الإنسان أن علماء النفس يبذلون كل ما يمكنهم من الجهود فى الكشف عن أمراض نفسية وعصبية جديدة ، ولكنهم فى نفس الوقت يهملون بذل الجهود للوصول إلى علاج لهذه الأمراض . وهذه الظاهرة تثير شعورا كئيبا بأن هؤلاء العلماء قد أخفقوا فى الميدان الأخير ، ولذلك أكبوا على الميدان الثانى يسترون خيبتهم ويظهرون بطولتهم أمام العالم !
وإلى ذلك أشار أحد العلماء المسيحيين قائلا : ( إن علماء الطب النفسى يبذلون كل جهودهم فى كشف أسرار القفل الدقيقة الذى سوف يغلق علينا كل أبواب الصحة !).
فالمجتمع الجديد يسير فى اتجاهين فى وقت واحد فهو يحاول من جهة الحصول على جميع الكماليات المادية على حين يتسبب – لتركه الدين – فى خلق أحوال تجعل من الحياة جحيما . إنه يعطيك دواء الشفاء من الفم ويحقنك السم فى العضل !!!
وسوف أنقل هنا شهادة لهذه الظاهرة رواها الدكتور ( بول أرنست أدولف ) ، يقول : ( تعرفت إثناء دراستى بالكلية الطبية على التغييرات التى تطرأ على أنسجة الجسم بعد الإصابة بالجراح ، وشاهدت أثناء التجارب بالمنظار المكبر أن أعراضا محددة تطرأ على هذه الأنسجة ، مما يؤدى إلى اندمال الجروح وشفائها . وعندما أصبحت طبيبا بعد إتمام دراستى كنت جد مقتنع بكفاءتى وأننى أستطيع أن أحقق نتيجة موفقة بالتأكيد باستعمال الوسائل الطبية اللازمة ، ولكن سرعان ما أصبت بصدمة كبيرة ، حيث فرضت على الظروف أن أشعر أننى أعرضت عن أهم عنصر فى علم الطب ، ألا وهو : الله) .
( كانت بين المرضى الذين كنت مشرفا على علاجهم فى المستشفى عجوز فى السبعين من عمرها أصيب أعلى فخذها بصدام ، وأكدت صور الأشعة أن أنسجة جسمها تلتئم بسرعة ، فقدمت لها تهنئتى لسرعة شفائها ؛ وأشار لى كبير الجراحين أن أطلب منها العودة إلى بيتها بعد أربع وعشرين ساعة ، لأنها استطاعت أن تمشى دون أن تستند إلى شيء ).
( وكان ذلك يوم أحد ، حين جاءت ابنتها تزورها على عادتها الأسبوعية فقلت لها إن والدتك تتمتع بصحة جيدة الآن وعليك أن تحضرى غدا لترافقيها إلى البيت . ولم تلفظ الفتاة بشيء أمامى ، بل توجهت إلى أمها وقالت لها إنه تقرر بعد مشورة زوجها أنهما لن يستطيعا تدبير عودتها " الأم " إلى بيتهما وخير لها الآن أن تنظم لها سكنى بإحدى ( دور العجزة ) . وبعد بضع ساعات مررت بسرير العجوز فشاهدت أن انهيارا سريعا يطرأ على جسمها ولم تمض أربع وعشرون ساعة حتى ماتت العجوز لا بسبب فخذ مكسور بل جراء قلب كسير .)
( لقد حاولت أن أقوم بجميع الإسعافات اللازمة لإنقاذها ، ولكن حالتها لم تتحسن كانت عظام فخذها المكسورة قد تحسنت كثيرا ولكننى لم أجد علاحا لقلبها الكسير .... أعطيتها كل ما عندى من الفيتامينات ، والمعادن ، ووسائل التئام العظم المكسور ، ولكن العجوز لم تستطع أن تنهض مرة أخرى ، لقد اتجبرت عظامها دون شك ، وكانت تملك فخذا قويا . ولكنها لم تقو على الحياة ، لأن ألزم عنصر لحياتها لم يكن الفيتامينات والمعادن ، ولا انجبار العظم وإنما كان ( الأمل ) ، الأمل فى أن تعيش على نحو معين ، فمتى ذهب الأمل فى الحياة ذهبت معه الصحة ( .
( وكان لهذا الحادث تأثير عميق فى نفسى ، لإحساسى بأن هذا الحادث كان من المستحيل وقوعه لو كانت هذه العجوز تعرف ( إله الأمل ) الذى أؤمن به لكونى مسيحيا )( 224 )
هذا المثال يعطينا صورة من التناقض الذى يعانى نه العالم فى كل جانب من جوانب حياته ، فالعالم يحاول اليوم بكل قوة أن تمحى الأحاسيس والمشاعر الدينية من قلوب الناس ، وهو فى هذه المحاولة يسعى إلى نهضة الإنسان ، متجاهلا ( الروح ) عنصره الأصلى .
ومن نتائج هذه المحاولة أن الطب يستطيع أن يجبر عظام فخذ مكسورة ولكن حرمان الإنسان من العقيدة الإلهية يفضى به إلى الموت رغم كون جسده فى صحة جيدة .
لقد دمر هذا التناقض الإنسانية تدميرا، فالأجسام تحت الأثواب البراقة أحوج ما تكون إلى الهدوء والسعادة الحقيقيين ؛ والأبنية الفخمة تسكنها قلوب محطمة ، والمدن المتلألئة ببريق الحضارة هى بؤر الجرائم ومصانع المصائب ، والحكومات الجبارة مصابة بالدسائس الداخلية وعدم الثقة ؛ والمشروعات الضخمة تبوء بالفشل نتيجة لخيانة القائمين بها : لقد أصبحت الحياة غير مرغوب فيها رغم التقدم المادى الهائل . وكل هذا وذاك يرجع إلى حرمان الإنسان من نعمة الإيمان بالله ، لقد حرمنا أنفسنا من المنبع مالأساس الذى هيأه لنا خالقنا ومالكنا . إن سبب الأمراض النفسية التى أشرت إليها حقيقة واضحة جلية اعترف بها علماء النفس ، وقد لخص عالم النفس الشهير ( بروفيسور يانج ) تجاربه عنها فى الكلمات التالية :
( طلب منى أناس كثيرون من جميع الدول المتحضرة مشورة لأمراضهم النفسية فى السنوات الثلاثين الأخيرة . ولم تكن مشكلة أحد من هؤلاء المرضى – الذين جاوزوا النصف الأول من حياتهم وهو ما بعد 35 سنة – إلا الحرمان من العقيدة الدينية ، ويمكن أن يقال : إن مرضهم لم يكن إلا أنهم فقدوا الشيء الذى تعطيه الأديان الحاضرة للمؤمنين بها فى كل عصر ، ولم يشف أحد من هؤلاء المرضى إلا عندما استرجع فكرته الدينية . ) ( 225 )
وإنها لكلمات جلية : ( لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ( 226 )
ولو أردنا المزيد من الإيضاح فلسوف أقتبس من الأستاذ ( ا. كريسي موريثون ) رئيس أكاديمية نيو يورك (سابقا ) قوله : ( إن الإحتشام ، والإحترام والسخاء ، وعظمة الأخلاق ، والقيم والمشاعر السامية ، وكل ما يمكن اعتباره ( نفحات إلهية ) – لا يمكن الحصول عليها من طريق الإلحاد ).
(فالإلحاد نوع من الأنانية ، حيث يجلس الإنسان على كرسى الله ) .
( لسوف تقضى هذه الحضارة بدون العقيدة والدين ).
( سوف يتحول النظام إلى فوضى . )
( سوف ينعدم التوازن ، وضبط النفس ، والتمسك . )
( يوف يتفشى الفقر فى كل مكان . )
( إنها لحاجة ملحة أ، نقوى من صلتنا بالله . )



0 التعليقات:

إرسال تعليق