الباب الأول قضية معارضي الدين



الباب الأول قضية معارضي الدين

 (تعتبر التطورات العلمية التي حدثت في القرن الماضي (انفجارا معرفيا) Knowledge Explosionفي وجه جميع الأساطير الإنسانية عن الآلهة والدين كما تفجرت الأفكار القديمة عن المادة ونسفت بمجرد تفجير الذرة). هذه هي قضية العلم الحديث الموجهة إلى
الدين كما يقول البروفيسور حوليان هكسلى(3).وتعتبر الصفحات التالية ردا على هذا التحدي ؛ فلقد كشفت أضواء العلم الحديث عن حقائق الدين ولم تنجح من أية ناحية في الإساءة إليه ، بل إن جميع ما وصل أو سيصل إليه العلم الحديث هو بمثابة تصديق لما أسماه الإسلام: (بالحقيقة الأخيرة) قبل أربعة عشر قرنا من الزمان:
(سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)(4).
* * *
والدين كما يزعم الملحدون من العلماء شيء لا حقيقة له ، وهو مظهر للغريزة الإنسانية الباحثة عن حقائق الكون والتي تحاول تفسيره. إن هذه الغريزة الإنسانية في ذاتها شيء مستحسن ، ولكن المعلومات والوسائل المحدودة قد انتهت بأجدادنا إلى إجابات غير صحيحة وهى التي تحتويها الآن أفكارهم عن الإله والدين. أما اليوم وبعدما توفرت لدينا الوسائل العلمية وأصلحت المعلومات الحديثة شئ كثيرا من معتقداتنا الاجتماعية والحضارية ، فقد حان الوقت لنعيد النظر في جميع ما وصل إليه أجدادنا من أفكار.
* * *
ويذهب الفيلسوف الفرنسي (أوجست كونت) –الذي نشأ في النصف الأول من القرن التاسع عشر- إلى أن تاريخ تطور الفكر الإنساني ينقسم إلى ثلاث مراحل:
الأولى: المرحلة اللاهوتية (Theological Stage) والتي فسرت الأحداث فيها باسم الإله.
والثانية: المرحلة الميتافيزيقية وفيها فسر الإنسان الأحداث باسم (عناصر خارجية) لا يعلمها ولكنه لا يذكر اسم الإله.
والثالثة: المرحلة الوضعية (Positive Stage) التي أخذ الإنسان يفسر فيها الأحداث باعتبارها عناصر خاضعة لقوانين عامة يمكن إدراكها بالمطالعة أو بالمشاهدة العلمية. وفى هذه المرحلة لا تذكر (الأرواح والآلهة والقوى المطلقة). ونحن بناء على هذا نعيش في المرحلة الثالثة التي تسمى في الفلسفة الحديثة بالوضعية المنطقية (Logical Positivisn). إن نظرية (الوضعية المنطقية) أو التجريبية العلمية (Scientific Empiricism) لم تعرف كحركة علمية عالمية إلا خلال العقد الرابع من القرن الحاضر ولكنها كفكرة نشأت قبل ذلك بسنين طويلة. وعلى ظهر هذه الفكرة نجد أسماء كبار العلماء والفلاسفة من أمثال: هيوم ، وميل ، إلى برتراندرسل. وقد أصبحت هذه الفكرة اليوم بفضل العدد الكبير من المؤسسات العلمية التي تقوم بدور فعال في الدعاية لها من أهم الحركات العلمية الحديثة. ويقول أحد الباحثين:
(كل معرفة حقة مرتبطة بالتجارب بحيث يمكن فحصها أو إثباتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة)(5).
وبناء على هذا يدعى معارضو الدين أن التطور الذي بلغ به الإنسان اليوم أعلى مستوى من الإنسانية هو نفى للدين من تلقاء نفسه. والسر في ذلك أن الأفكار المتطورة الحديثة تؤكد أن (الحقيقة) ليست إلا مل يمكن فحصه وتجربته علميا ، وبعبارة أخرى إن التفسير اللاهوتي للأحداث والوقائع لا يمكن إثباته بالوسائل العلمية فهو باطل لا حقيقة له. ويترتب على هذا القول بأن: (الدين تفسير زائف لوقائع حقيقية) ؛ ذلك أن علم الإنسان القديم المحدود لم يقدم التفسير الحقيقي للأحداث ، على حين أن القانون العام للتطور أتاح لنا أن نبحث عن الحقائق بالوسائل التجريبية الصحيحة.
ويمكن أن نقول هذا الكلام بأسلوب آخر: إن موقف علماء الأديان القديمة أشبه برجل يكتب (شيكا لا رصيد له في المصرف) فهم قد صاغوا عبارات ليس ورائها حقائق علمية ، فعبارة (الحقيقة العليا غير المتغيرة) صحيحة نحوا ولكن ليس لها أي أساس علمي (6).
(لقد أثبت (نيوتن) أنه لا وجود لإله يحكم النجوم. وأكد (لابلاس) بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أي أسطورة لاهوتية. وقام بهذا الدور العالمان العظيمان (دارون) و (باستور) في ميدان البيولوجيا. وقد ذهب كل من علم النفس المتطور والمعلومات التاريخية الثمينة التي حصلناها في هذا القرن بمكان الإله الذي كان مفروضا أنه هو مدير شئون الحياة الإنسانية والتاريخ)(7).
لقد قامت قضية معارضي الدين على أسس ثلاثة:
الأساس الأول: بطل هذا الانقلاب في البيولوجيا هو (نيوتن) الذي عرض على الدنيا فكرة تثبت أن الكون مرتبط بقوانين ثابتة تتحرك في نطاقها الأجرام السماوية. ثم جاء بعده آخرون فأعطوا هذه الفكرة مجالا علميا أوسع حتى قيل: إن كل ما يحدث في الكون من الأرض إلى السماء خاضع لقانون معلوم سموه (قانون الطبيعة). فلم يبق للعلماء ما يقولون بعد هذا الكشف ، ويرى أن الإله كان هو المحرك الأول لهذا الكون. وضرب (والتير) مثلا في هذا الصدد: أن الكون كالساعة يرتب صانعها آلاتها الدقيقة في هيئة خاصة ويحركها ثم تنقطع صلته بها. ثم جاء (هيوم) فتخلص من هذا الإله الميت ، وعلى حد قوله: (لقد رأينا الساعات وهى تصنع في المصانع ولكننا لم نرى الكون وهو يصنع فكيف نسلم بأن له صانعا)؟
* * *
لقد جلى التطور العلمي للإنسان كثيرا من سلسلة الأحداث التي لم يشاهدها من قبل ، فهو لم يكن على علم بأسباب شروق الشمس وغروبها حتى زعم أن هناك قوة فوق الطبيعة تجعلها تشرق وتغرب. و ها قد عرفنا اليوم أن شروق الشمس وغروبها يحدث لدوران الأرض حول نفسها ، وبذلك انتهت ضرورة القول بهذه الطاقة تلقائيا بعدما عرفنا الأسباب المؤدية إلى هذه الحركة الكونية. (فإذا كان قوس قزح مظهرا لانكسار أشعة الشمس على المطر ، فماذا يدعونا إلى القول بأنها آية الله في السماء).
من أجل هذا كله وغيره قال هكسلى:
(إذا كانت الحوادث تصدر عن قوانين طبيعية فلا ينبغي أن ننسبها إلى أسباب فوق الطبيعة)(8).
* * *
والأساس الثاني: وقد ازداد العلماء يقينا بعد البحوث العلمية في ميدان علم النفس حين توصلوا إلى نتائج تثبت أن الدين نتاج اللا شعور الإنساني وليس انكشافا لواقع خارجي. ويقول عالم كبير من علماء النفس:
(God is nothing but a projection of man on a cosmic screen)
(ليس الإله سوى انعكاس للشخصية الإنسانية على شاشة الكون). وما عقيدة الدنيا والآخرة إلا صورة مثالية للأمانى الإنسانية ، وما الوحي والإلهام إلا إظهار غير عادى لأساطير الأطفال المكبوتة (Childhood Repression)(9).
* * *
ويرى علم النفس الحديث أن العقل الإنساني مركب من شيئين هما: (الشعور) وهو مركز الأفكار التي تخطر على قلوبنا في ظروف عادية ، و( اللاشعور) وهو مخزن الأفكار التي مرت بنا ونسيناها ولا تظهر إلا في أحوال غير عادية كالجنون والهستيريا. وهذا القسم الثاني أكبر بكثير من الأول ، ويمكن أن نمثل لهما بجبل من الجليد فلو قسمناه تسعة أجزاء لكان منها ثمانية في جوف البحر ولظهر جزء واحد على السطح.
اكتشف فرويد بعد جهد طويل أن اللا شعور قد يقبل أفكارا في الطفولة وتؤدى إلى أعمال غير عقلية وهذا ما يحدث بالنسبة إلى العقائد الدينية: فإن فكرة الجحيم والجنة ترجع إلى صدى الأماني التي تنشأ لدى الإنسان إبان طفولته ولكن لم تسنح له الفرصة لتحقيقها فتبقى دفينة في اللاشعور ثم يفرض اللاشعور بدوره حياة أخرى يتيسر له فيها تحصيل ما كان يتمناه شأن الرجل الذي قد لا يظفر بما يحب في الواقع فيحصله في المنام. وهكذا خرجت عقدة التفرقة بين الصغير والكبير(Father complex) من الجرائم الاجتماعية ، فصاغوا منها نظرية على مستوى الكون والسماء.
ويقول رالف لينتون:
(عن عقيدة القادر المطلق الظالم في نهاية الأمر الذي لا يرضى إلا بالطاعة الكاملة والوفاء ، كانت أول ما أنتجه نضام المجتمع السامي ، لقد خلق هذا النظام جبروتا غير عادى ، وكانت نتيجة أن شريعة موسى خرجت بقوائم ضخمة مفصلة عن المحرمات في كل مجال من الحياة الإنسانية ، وقد آمن بهذه القوائم الطويلة العوام الذين كانوا يتقبلون أحكام آبائهم العمياء ويطيعونها ، وما التصور الإلهي (اليهودي) إلا خيال مثالي لأب سامي ، مع شيء من المبالغة والتجريد في الأوصاف والطاقات)(10).
والأساس الثالث: لقضية معارضي الدين هو: (التاريخ) ، يقولون: إن القضية الدينية وجدت لأسباب تاريخية أحاطت بالإنسان ، فلم يكن في استطاعته أن يفلت من السهول والأعاصير والطوفانات والزلازل والأمراض فأوجد (قوى فرضية) يستغيثها لتنقذه من البلايا النازلة ، وهكذا ظهرت الحاجة إلى شيء يجتمع الناس حوله ولا يفترقون ، فاستغل اسم (الإله) الذي تفوق قوته قوة الإنسان ويهرع الجميع إلى رضاه.
يقول محرر دائرة معارف العلوم الاجتماعية تحت اسم (الدين):
(وبجانب المؤثرات الأخرى التي ساعدت في خلق الدين فإن إسهام الأحوال السياسية والمدنية عظيم جدا لهذا المجال. إن الأسماء الإلهية وصفاتها خرجت من الأحوال التي كانت تسود على ظهر الأرض ، فعقيدة كون الإله (الملك الأكبر) صورة أخرى للملكية الإنسانية ، كذلك الملكية السماوية صورة طبق الأصل للملكية الأرضية. وكان الملك الأرضي القاضي الأكبر ، فأصبح الإله يحمل هذه الصفات ولقب (بالقاضي الأكبر الأخير) الذي يجازى الإنسان على الخير والشر من أعماله ، وهذه العقيدة القضائية التي تؤمن بكون الإله محاسبا ومجازيا لا توجد في اليهودية فحسب ، وإنما لها مقامها الأساسي في العقائد الدينية المسيحية والإسلامية) (11).
* * *
 (لقد خلق العقل الإنساني الدين وأتم خلقه في حالة جهل الإنسان وعجزه عن مواجهة القوى الخارجية). ويضيف جوليان هكسلى إلى هذا قوله:
(فالدين نتيجة لتعامل خاص بين الإنسان وبيئته)(12). ويقول أيضا:
(إن هذه البيئة قد فات أوانها أو كاد وقد كانت هي المسئولة عن هذا التعامل ، فأما بعد فنائها وانتهاء التعامل معها فلا داعي للدين) ، ويضيف: (لقد انتهت العقيدة الإلهية إلى آخر نقطة تفيدنا وهى لا تستطيع أن تقبل الآن أية تطورات ؛ لقد اخترع الإنسان قوة ما وراء الطبيعة لتحمل عبء الدين ؛ جاء بالسحر ثم بالعمليات الروحية ثم بالعقيدة الإلهية ، حتى اخترع فكرة (الإله الواحد). وقد وصل الدين بهذه التطورات إلى آخر مراحل حياته. ولا شك أن هذه العقائد كانت في وقت ما جزءا مفيدا من حضارتنا ، بيد أن هذه الأجزاء قد فقدت اليوم ضرورتها ومدى إفادتها للمجتمع الحاضر المتطور(13).)
* * *
وترى الفلسفة الشيوعية أن الدين (خدعة تاريخية) وهى تركز الأسباب في عوامل اقتصادية لأنها تنظر إلى التاريخ في ضوء الاقتصاد. وهى ترى أن العوامل التاريخية التي خلقت النظام البورجوازي الاستعماري القديم ، وهذا النظام القديم يلقى اليوم حتفه فلندع الدين أيضا يذهب معه.
يقول فيلسوف الشيوعية انجلز:
(إن كل القيم الأخلاقية هي في تحليلها الأخير من خلق الظروف الاقتصادية)(14)
فالتاريخ الإنساني هو تاريخ حروب الطبقات التي امتص فيها البورجوازيون دماء الفقراء وقد كانت الغاية من وضع الدين والأسس الأخلاقية حماية حقوق البورجوازيين.
ويقول البيان الشيوعي :(Communist Menifesto)
(إن الدستور والأخلاق والدين كلها خدعة البورجوازية ، وهى تتستر وراءها من أجل مطامعها).
ويقول لينين في خطاب له ألقاه في المؤتمر الثالث لمنظمة الشباب الشيوعي في أكتوبر سنة 1920 :
(إننا لا نؤمن بالإله ونحن نعرف كل المعرفة أن أرباب الكنيسة والإقطاعيين والبورجوازيين لا يخاطبوننا باسم الإله إلا استغلالا ومحافظة على مصالحهم ، إننا ننكر بشدة جميع هذه الأسس الأخلاقية التي صدرت عن طاقات وراء الطبيعة غير الإنسان والتي لا تتفق مع أفكارنا الطبقية ونؤكد أن كل هذا مكر وخداع وهو ستار على عقول الفلاحين والعمال لصالح الاستعمار والإقطاع ، ونعلن أن نظامنا لا يتبع إلا ثمرة النضال البروليتارى فمبدأ جميع نظمنا الأخلاقية هو الحفاظ على الجهود الطبقية البروليتارية)(15).
كانت هذه هي قضية معارضي الدين التي يزعم بعض العلماء الجدد بناء عليها ما يمكن تلخيصه في كلمة أستاذ أمريكي في طب الأعضاء:
(Scince has shown religion to be history s crueliest and wicke-diest hoax)
(لقد أثبت العلم أن الدين كان أقسى وأسوأ خدعة في التاريخ)(16).
ولسوف ننظر في مدى صحة هذه القضية على أسس علمية في الباب الآ تى ، إن شاء الله.
* * *

0 التعليقات:

إرسال تعليق