تمهــــــــيد




تمهــــــــيد

الموضوع الذي سندرسه في الصفحات التالية ليس بجديد بالنسبة إلى اللغة الأردية ، ولكن المؤلف يشعر بأنه لا يزال ناقصا ، رغم الجهود الطيبة التي بذلها بعض الكتاب.

والعصر الحديث يسمى : (عصر الإلحاد)، لإنكاره الدين. وهذا الإلحاد ليس محض ادعاء. بل يثرى أصحاب نظريته أنها طريقة بحث ودراسة ، اهتدى إليها الإنسان ، بعد التطور الحديث فى ميادين العلم المختلفة ، وهذه(الدراسة التطورية) لا تهدف إلى إثبات نظرية ما أو إنكارها ، وإنما هى منهج خالص فى البحث ، أثبت لأصحابه أن الدين باطل ، ويمكن أن نفهم هذه الطريقة الجديدة فيما قاله ت.ر..مايلز:
(إن الدراسة الجديدة هى تكنيك ومنهج ونمط معين لمواجهة الأسئلة ، وهى لا تستهدف وضع إجابات قطعية. وهو –من هذا الوجه- تغير هام طرأ على الفلسفة فى النصف الأخير من هذا القرن ، ولسوف يبقى هذا التغير مستمرا ، دون أمل فى توقفه على المدى(1) البعيد).
ولابد لباحثينا إذا ما أرادوا البحث فى العلوم الحديثة ، دفاعا عن الدين ، ألا يغيب عن أذهانهم هذا التفسير ، سواء اعتبرناه تفسيرا علميا محضا توصل إليه المفكرون المحدثون ، أو اعتبرناه مجرد ملجأ جميل ركنوا إليه حين أخفقوا فى البحث عن التفسير المادي للكون بعد إنكار الدين.
وعلى سبيل المثال : إن الأعمال التى قام بها علماؤنا لإثبات النبوة تفترض مقدما أن العصر الحديث يدعى : أن محمدا صلى الله عليه وسلم (كان نبيا كاذبا) ، فيبدءون فى جمع كميات كبيرة من المواد التى تثبت أن محمدا كان (نبيا صادقا). ومغزى القول :(كان محمد نبيا كاذبا) هو أن هناك أنبياء آخرين صادقين ؛ على حين يشك الإنسان الجديد فى المبدأ نفسه فهو لا يؤمن بالنبوة أصلا. فأما (النبي الكاذب) False Prophet فهو اعتراض قديم جاء به اليهود والنصارى الذين يؤمنون بأنبيائهم وينكرون نبى الإسلام. وأما العقل الحديث فلا يبحث عما إذا كان محمد نبيا(صادقا أو كاذبا) ، وإنما يبحث عن منبع كلامه النبوي وينتهي اعتمادا على المناهج المعروفة إلى أن مصدر هذا الكلام الغريب هو : (اللاشعور). . . وهو يرى أن التعبير عن كلام اللاشعور بالوحى والإلهام يصلح أن يكون استعارة جميلة ولكنه يستحيل اعتباره واقعا حقيقيا.
ولذا فإن مهمتنا لا تنتهي عند إثبات صدق نبوة رسول الإسلام ، بل علينا أن نضطلع بالبحث عن الوحي والإلهام ونثبت أن الوحي ينزل على أناس معينين ، من بينهم نبي الإسلام.
* * *
كان هذا موقف من يتصدى لنقد الفكر الحديث دون فهم موقفه من القضية. وهناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين ، ولكنه لشدة تأثرهم بالفكر الحديث يرون أن كل ما توصل إليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية) ، ومن ثم تقتصر بطولتهم على إثبات أن هذه النظريات التى سلم بها علماء الغرب هى نفس ما ورد فى القرآن الكريم وكتب الأحاديث الأخرى. وهذه الطريقة فى التطبيق والتوفيق بين الإسلام وغيره هى نفس الطريقة التى تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة. وأية نظرية تقدم على هذا النحو يمكنها أن تكون تابعة ولكنها لا يمكن أن تكون رائدة! ولو خيل إلى أحدنا أنه يستطيع أن يغير مجال الفكر فى العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية ليشرق على البشرية نور الحق فهو هائم ولا شك فى عالم خيالي لا يمت إلى الحقائق بسبب. .فإن تغيير الأفكار والمعتقدات لا يأتي من طريق التلفيق ، بل عن طريق الثورة الفكرية.
وهذه الحالة تورطنا بصورة أكبر عندما تتعلق المسألة بجانب أساسي وهام من أفكار الدين ، فلا بأس بأن يقوم أحدنا بتفسير جديد لظاهرة (الشهاب الثاقب) التي وردت فى القرآن حين يجد كشفا جديدا فى علم الفلك الحديث ولكننا لو قبلنا نظرية كلية شاملة وذات علاقة بالمشكلات الأخرى التى تثار حول الدين فسوف يكون لذلك تأثير عميق وكلى فى هيكل الفلسفة الدينية نفسه.
وأوضح مثال فى هذا هو تلك الجماعة من علمائنا الذين قبلوا (نظرية النشوء والارتقاء) لأن علماء الغرب أعلنوا اقتناعهم الكامل بصدقها بعد دراستهم ومشاهدتهم. . واضطروا بناء على هذا إلى تفسير جديد للإسلام فى ضوء النظرية الجديدة ، وحين احتاجوا إلى لباس جديد قاموا بتفصيل ثوب الإسلام مرة أخرى ولكنه ثوب مشوه المعالم لا أثر فيه من روح الإسلام التي ضاعت مع الأجزاء المقطعة فى عملية التلفيق الجديدة.
إن نظرية النشوء والارتقاء تستهدف إقرار فكرة التطور بصفة مستمرة بحيث تبلغ الحياة أوجها عند النهاية. وبناء على هذا: لابد من أن تحدث الأحوال السيئة فى الماضي لا فى المستقبل. ويروق لهذه النظرية حياة الخلود فى الجنة ولكنها لا تقبل الخلود فى نار الجحيم. ولذا ادعى العلماء المسلمون الذين قبلوا هذه النظرية أن الجحيم ليست مكانا للعذاب وإنما هى مركز للتربية والتزكية. فالحياة تواصل مسيرتها فى مواجهة الصعاب والمشكلات. والذين لم يستطيعوا مواصلة مسيرتهم بسبب عوائق الذنوب سوف يمرون بأحوال الجحيم الصعبة حتى يواصلوا رحلتهم التطورية خلال الحياة القادمة. ومن هنا ترى هذه الطائفة أن قوانين الملكية-مثلا-فى الإسلام ليست إلا (أحكاما مؤقتة) فإن هذه القوانين لا تتفق ونظرية التطور الاجتماعي.
ويمكن فهم نوعية الأعمال التى قام بها بعض علماؤنا من المثالين المذكورين ، فهى أعمال ناقصة رغم الجهود التى بذلت فى صوغها. ولا يدعى المؤلف أن محاولته تخلوا من النقائص ولكنه يقول: إن المحرك الحقيقي لمحاولته هو شعوره بأن عملا من هذا القبيل كان لابد أن يكون.
* * *
إن الطريقة التى يتبعها الكتاب للدفاع عن الدين ذات وجهين: فكرية وتجريبية ؛ وبعبارة أخرى: فلسفية وعلمية إن صح التعبير. وقد راعى المؤلف الطريقة الثانية وهى التجريبية أو العلمية. والسبب فى دلك أن مكتبتنا تذخر بمجلدات ضخمة من الكتب التى وضعت على المنهج الأول على حين يوجد نقص شديد فى الكتب من المنهج الثاني.
وإنني لأشعر بأن المضمار الفسيح الذى هيأته الدراسات العلمية الحديثة لإثبات الدين هو تصديق لما جاء فى القرآن فى سورة النمل:(وقل الحمد لله ، سيريكم آياته فتعرفونها). وهذا الكتاب محاولة لاستغلال الإمكانات الجديدة لصالح الدين بطريقة منتظمة.
* * *
وهذا الكتاب ليس دراسة موضوعية بل هو دراسة ذاتية بناء على التقسيم الجديد للكتب. وهذا الواقع كما يرى العقل الحديث هو من تلقاء نفسه صوت ضد الكتاب! فكيف يمكن الاعتماد على دراسة ذاتية قدمها عقل يستهدف اتجاها معينا؟ و جوابا على هذا الاعتراض الذى قد يثار ، أنقل هنا عبارة للمستشرق النمسوي المسلم محمد أسد فى مقدمة أحد كتبه:
(إن هذا الكتاب لا يستهدف مسحا محايدا للمسائل بل هو عرض لقضية هي قضية الإسلام في مواجهة الحضارة الغربية)(2).
وعلى الرغم من الأحكام التى قدمها علم النفس حول إمكان أن يكون المرء محايدا فى أبحاثه أو لا ، فإنني أسلم-نظريا-بأنه لابد لكل مؤلف أن يبذل قصارى جهده لكى يكون محايدا من أجل الوصول إلى نتيجة ما ، وهذا هو ما يقصده كل كاتب أمين. لكن هذا الكاتب نفسه عندما يجلس إلى مكتبه-فى الواقع-لا نجده باحثا عن الحقيقة أثناء كتابته بل يكون قد توصل إلى أحكام محددة المعالم.
وهناك طريقة أخرى هى أن يسرد المؤلف قصة بحثه بجميع مراحلها غير أن اعتبار مثل هذا الكتاب محايدا لا يعدو أن يكون قناعا مزركشا تختبئ تحته أهداف المؤلف. فليس هناك من كاتب يبدأ دراسته عندما يبدأ الكتابة ، وإنما هو يعرض نتائج بحثه في كتابه. فالكتاب إنما يكون ذاتيا أو موضوعيا بالنظر إلي طريقة ترتيبه للموضوعات ولا علاقة لهذا الترتيب بحياد البحث أو موضوعيته.
* * *
لقد وردت كلمة (الدين) كثيرا فى هذا الكتاب وليس لأحد أن يغالط فى هذا الموضوع فإن الكتاب يدور حول موضوع عام ولذلك كان لاستعمال الكلمة العامة أهميته. أما ذهن المؤلف فإنه لا يقصد بالكلمة شيئا وهميا وإنما يعنى (الدين) المعتمد عند الله تعالى الآن وهو دين الإسلام. وأنا حين أطالب مواطنا هنديا بمراعاة القانون فليس معنى ذلك أنه تكفيه مراعاة قانون ما أو أى جزء من دستور الهند ، وإنما عليه مراعاة ذلك القانون الذى يعتبر دستور البلاد الرسمي. وهكذا فالمراد بالدين العملي اليوم هو الإسلام مع أنه من الممكن إطلاقه على أى شيء عرف فى التاريخ بذلك الاسم ولكن الدين الذى يجلب رضا الله تبارك وتعالى والذي يكفل لمعتنقيه نجاة الآخرة ، هو الإسلام لا غير. .
* * *
لقد تعرضت لسؤال بعد محاضرة ألقيتها فى إحدى الجامعات ذات مرة ، وكنت أشرت فى محاضرتي إلى مقال لفرويد ، فوقف أستاذ فى علم النفس أثناء فترة الأسئلة وقال: (لقد أشرتم فى مقال لفرويد تأييدا لنظرية دينية على حين يعارض (فرويد) معارضة كاملة تلك النظرية التى تمثلونها)
ومن الممكن إثارة هذا السؤال حول هذا الكتاب على نطاق واسع ، فهناك اقتباسات كثيرة وردت فيه ومن الجائز ألا يوافق أصحابها على النتائج التي توصلت إليها. وعلى سبيل المثال:الاقتباس الذي ورد في آخر الباب الخامس (دليل الآخرة) ، ولكن هذا الاعتراض غير ذي موضوع ، لأن المؤلف لا يدعى أن هذه الشخصيات تؤيد قضاياه ، وبكلمة أخرى لم يقل المؤلف: إن هذه القضية أو تلك صادقة لأن فلانا يصدقها أو يؤيدها. وعلى العكس من ذلك فإن جميع هذه الاقتباسات قد استعملت توضيحا لدليل أو قضية ، فقد يعبر المؤلف عن قضية معينة بألفاظه تارة وقد يستعير ألفاظ الآخرين حتى يتبين الموضوع تارة أخرى.
والاتجاهات التى تمثلها هذه الاقتباسات ليست بآراء ذاتية لأصحابها وإنما هى كشوف علمية يمنحها الملحدون معاني مختلفة. أما نحن فقد جمعناها حين شعرنا أنها فى صالح الدين ، وأما الاقتباسات التى تؤيد الدين صراحة فأكثرها لعلماء يدينون بالمسيحية ؛ ولا عجب فهم يشاركوننا فى كثير من العقائد السماوية.
* * *
وواضح من عنوان الكتاب أنه يهدف إلى إثبات أحقية الدين أمام الفكر المادي الجديد. وهذا الإثبات يتخذ لنفسه أسلوبين ، أولهما: أن نستدل بأن الدين ليس (ماديا) بل فوق المادة ن وبناء على ذلك ليس للعلوم المادية أن تعترض طريق الدين ، وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية القوة ؛ حيث إن العلماء قد اعترفوا في هذا القرن: (بأن العلوم المادية لا تعطى إلا علما جزئيا عن الحقائق) ، ومغزاه أنه بناء على اعتراف هذه العلوم نفسها هناك حقائق أخرى لا تستطيع العلوم المادية الوصول إليها ، ومنها حقائق الدين. ويعتبر كتاب (ج.و.ن. سوليفان) خير محاولة في هذا الموضوع وسوف نستعرضه في الباب السابع من هذا الكتاب.
وأما الطريقة الأخرى لإثبات حقائق الدين فهي اتباع نفس الطرق العلمية التي يتبعها العلماء الملحدون لإثبات معتقداتهم. وقد ركز المؤلف أهمية أكثر على هذا الجانب ، فهو يرى أنه لابد من اتباع نفس أساليب الاستدلال التي يستغلها الملحدون حتى يمكن إثبات حقية الدين.
* * *
وهناك ناحية أخرى لابد من توضيحها هي أن الأسلوب الذي سلكه الكتاب قد يكون غريبا على بعض الأذهان من علماء الدين ، وإذا كان الأمر كذلك فإنى أقول: إنه لابد من مراعاة حقيقة هي أن هذا الكتاب لا يستهدف تفسير الدين بل هو وليد ضرورة كلامية ؛ فالأسلوب الذي يسلك عند تفسير الدين أمام أصحاب الفطر الدينية المؤمنة غير الاسلوب الذي يستخدم عندما يكون الحاضرون ممن يزعمون أن الدين خدعة وأضحوكة وتخدير للشعوب ، فكلما أردنا مواجهة الأسئلة التي تثار ضد الدين ، كان لابد من تغيير لهجتنا ولغتنا بتلك التي يستغلها الأعداء حتى نستطيع أن نقف أمام العواصف. وعلينا ألا ننسى أن طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيرا بتغير الزمن ، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدى العصر الحديث.
* * *
وقبل أن أختم هذا الحديث أرى لزاما على أن أعترف بجميل زميلين من الرفاق-مهديا إليهما هذا الكتاب- وهما من الشخصيات اللامعة التي عرفت بخدمة الإسلام في الربع الأخير من هذا القرن. . وهما:مولانا أبو الأعلى المودودى ، ومولانا السيد أبو الحسن على الحسنى الندوى. فالفضل يرجع إلى الأستاذ المودودى في أنه كان المحرك الذي حثني- بطريقة غير مباشرة-على أن أضحى بحياتي لخدمة الإسلام منذ خمسة عشر عاما ، في أدق مرحلة من مراحل حياتي. . وأما الأستاذ الندوى فهو الذي حملني على القيام بهذا العمل ، فجزاهما الله خير جزاء. .

لكناؤ
في 26 أغسطس 1964
وحيد الدين خان


0 التعليقات:

إرسال تعليق