الباب الثامن الدين ومشكلات الحضارة
التشريع:
السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه عند البحث في المشكلات الحضارية يكون دائما عن التشريع أو الدستور. فهذه المشكلات تنشأ عن علاقة الفرد بغيره ؛ والتشريع هو الذي يحدد هذه العلاقة علي أساس من العدل والإنصاف. ولكن من المذهل أن أقول: إن الإنسان لم يفلح إلي الآن في الكشف عن دستور حياته! صحيح أن جميع الدول في العالم قائمة علي أسس الدستور ؛ ولكن هذه الدساتير مخفقة تماما في الوصول إلي أهدافها ، بل لا يوجد هناك ما يسوغ وجود هذه الدساتير سوي أنها تنفذ بالقوة والإجبار.
ومن الحقائق المعروفة لرجال القانون أن جميع الدساتير الرائجة في هذا العصر تفقد أية أسس علمية أو نظرية تجيز بقائها. ويري الأستاذ (فولر) L.L. Fuller أن (القانون لم يكشف عن نفسه بعد! ). . وفولر هذا هو الذي وضع كتابا أسماه: (القانون يبحث عن نفسهThe Law in Quest of Itself).
* * *
وقد وضعت كتب لا حصر لها حول هذا الموضوع بالذات ؛ وبذلت عقول جبارة من علمائنا أوقاتها في سبيل البحث عن مقومات القانون. وكما يري محرر (موسوعة تشامبرز) (لقد أعطي القانون أهمية علم هام ، حني رفع من شأنه إلي أقصي الحدود). ولكن كل هذه الجهود لم توفق في الحصول علي صورة متفق عليها من القانون. وقد تشعبت بهم السبل حني قال خبير في التشريع: (لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا! ! )
وقد انقسم خبراء التشريع إلي مدارس فكرية كثيرة ؛ ولكننا-رغم تعدد هذه المدارس-قد لا نجد لبعض كبار علماء القانون فيها مكانا! يقول البروفيسور (باتون)G.W. Patonعن (جون آستين): (إنه لا يصلح لأي من الأقسام العريضة Broad Divisions للقانون(186)):
وأما السب وراء هذا الاختلاف بين خبراء التشريع ، فهو عدم توصلهم إلي أساس صحيح يمكن إقامة صرح التشريع عليه. إنهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد. ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخري مماثلة ؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت إلي الماء مرة أخري! !
ومن ثم باءت كل الجهود- التي استهدفت الحصول علي الدستور المثالي- بالفشل الذر يع.
ويعبر الأستاذ (و. فريدمان ) عن هذه المشكلة قائلا:
(. . وإنها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر ، من نهاية إلي نهاية أخري(187)!)
* * *
وقد لاحظ (جون آستين) أن الدستور- أي دستور- لايصبح نافذ المفعول إلا إذا كانت تسنده قوة من ورائه ، فعرف (القانون) في كتابه ، الذي نشر لأول مرة عام1861 علي النحو التالي:
(القانون هو الحكم الذي أصدره (رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدني منه في المرتبة السياسية(188)).
وقد أصبح التشريع بناء علي هذا التعريف (مرسوما لصاحب السيادة(189)! ولذلك شن المحدثون من العلماء حملة شديدة علي هذه الفكرة ، وقالوا: إنه لا يمكن منع انحرافات الحكام إلا إذا كان (رضا الشعب العام) دعامة أساسية في التشريع. . وأنكروا أي قانون أو دستور لا يحرز رضا الجماهير ؛ وترتب علي ذلك أن ضوابط كثيرة يجمع علي صحتها وأفادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق-لا يمكن تنفيذها ، لأن الشعب لا يوافق عليها. وعلي سبيل المثال لم يتمكن الأمريكيون من إدخال مشروع قرار يحرم الخمر ، لأن الشعب لم يرض عنه. . كما اضطر البريطانيون إلي إدخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل ، واضطروا إلي إباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية ، علي الرغم من ضجيج المثقفين ، واحتجاج علماء القانون !
* * *
وهناك مسألة أخري اختلف حولها علماء القانون: هل القانون قابل للتغير أو لا؟
لقد لقيت نظرة (القانون الطبيعي) رواجا كبيرا في العصور الوسطي ، وفي العصور التي تلتها ، ومؤداها أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع:
(فالطبيعة تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة. وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للإنسان في صورة (العقل) ، ولذلك لابد من إقامة حكومة بقوة العقل(190)).
وقد أعطت هذه النظرية أساسا كونيا للمشرعين ، فقيل :إنه لابد من دستور موحد صالح لكل العصور. وهذه هي نظرية علماء القرنين السابع والثامن عشر حول القانون. ثم جاءت مدرسة أخري ادعت استحالة معرفة الأسس الكونية للدستور. ويقول (كوهلير) في هذا:
(ليس هناك دستور أبدي وأي تشريع يصلح لعصر ما ليس-بالضرورة- صالحا لعصر آخر. وليس لنا إلا أن نجهد أنفسنا في البحث عن دستور يلائم كل حضارة علي حدة. فقد يكون دستور ما خيرا لطائفة من الناس ، ثم يسب هلاك طائفة أخري(191)).
وقد قضت أفكار هذه المدرسة الأخيرة علي تحكم القانون واستقراره ، فهي تدعو الإنسان إلي فكرة التغير العمياء ، والنسبيةRelativism؛ وهي لن تنتهي إلي حد ما حيث إنها تفتقر إلي الأساس. وقد قلبت هذه الفكرة جميع القيم الإنسانية رأسا علي عقب.
* * *
وهناك مدرسة أخري تدعو إلي إحراز أكبر قدر من مقومات العدل في التشريع. ويكتب (اللورد رايت) Lord Wrihght معلقا علي فكرة (دين راسكو باوند):
(إن راسكو باوند يدعو إلي فكرة-اطمأننت إلي صدقها بعد جميع تجاربي ودراستي في القانون- وهي أن الهدف الأساسي والابتدائي للتشريع هو (البحث عن العدل)(192)).
فإذا سلمنا بهذه النظرية واجهنا سؤالا هاما هو: (ما العدل؟) ؛ (وكيف يمكن تعيينه؟) ، وهكذا مرة أخري نرجع إلي (جون آستين)!
ومرة أخري نقف أمام ظاهرة أن الإنسان لن يستطيع الكشف عن أساس واقعي للتشريع ؛ رغم الجهود الجبارة التي بذلت في هذا الحقل منذ مئات السنين ، ويزداد يوما بعد يوم شعور بالمرارة وخيبة الأمل بين رجال التشريع ، لأن الفلسفة الحديثة قد فشلت في بحثها عن أهداف الدستور.
ويتسائل البروفيسور جورج وهيتكروس باتون قائلا:
(ما (المصالح) التي لابد للدستور المثالي أن يحافظ عليها ؟ إنه سؤال يتعلق (بالقيم) ويدخل في دائرة فلسفة التشريع. وما أكثر ما نرجو من الفلسفة عن (ميزان للقيم) يمكن قبوله لدي جميع الأطراف.
والحقيقة أنه ليس هناك من أساس لشئ م النظم إلا للدين ؛ ولكن الحقائق الدينية تصلح كعقيدة ووجدان ، ولا يمكن قبولها علي أساس الاستدلال المنطقي (193)).
وقد نقل البروفيسور (باتون) رأيا لبعض علماء التشريع-يقول: إن جميع محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن (الأهداف) في فلسفة التشريع قد انتهت إلي غير ما نتيجة (194). ويتسائل (باتون) : أهناك حقا (قيم مثالية) تحدد الأسس عند تطوير التشريعات ؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل إلي هذه القيم حني الآن ، غير أنها لابد منها). ويستطرد قائلا:
(لقد استخرج أصحاب نظرية (القانون الطبيعي) القديمة أسسهم من الحقائق الإلهامية في الدين. ولكن إذا ما أردنا نحن أن نأتي بتشريع علماني ، فأين سنجد أساس القيم المتفق عليها(195)؟)
وهذه التجربة المريرة تدعو الإنسان للعودة إلي الجهة التي انحرف عنها منذ قرون. فقد كان الدين يسهم إسهاما فعالا في وضع دساتير الزمن القديم. . ويري خبير القانون المعروف السير هنري مين : أنه (لا يوجد مثال واحد في القوانين التي تم تسجيلها كتابة من قانون الصين إلي بيرو ، إلا وكان ذا علاقة بالطقوس الدينية والعبادات منذ بداية أمره(196)).
* * *
لقد آن الأوان أن نعترف بالحقيقة القائلة: بأن البشر لا يستطيعون وضع دستور لهم بدون هدي الله. وبدلا من المضي في الجهود التي لا تأتي بنتائج مثمرة علينا أن نعترف بالواقع الذي يدعونا إليه (الدكتور فرويدمان) حين يقول:
(يتضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنه لابد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل. والأساس الذي يحمله الدين لإعطاء العدل صورة ينفرد هو به في حقيته وبساطته (197)).
إننا نجد في الدين جميع الأسس اللازمة التي يبحث عنها المشرعون لصياغة دستور مثالي ، ولكي يتضح صدق ما نقوله ، نأتي بالدراسة الوجيزة التالية في أهم مشكلات التشريع الإنساني:
أولا – مصدر التشريع:
وأول الأسئلة وأهمها بالنسبة لأي تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الذي يضعه ! ومن ذا يعتمده حني يصبح نافذ المفعول؟
لم يصل خبراء التشريع إلي إجابة عن هذا السؤال حني الآن. ولو أننا خولنا هذا الامتياز للحاكم ، لمجرد كونه حاكما ، فليس هناك أساس نظري وعلمي يجيز تمتعه-هو أو شركاؤه في الحكم- بذلك الامتياز، ثم إن هذا التحويل من ناحية أخري لا يجدي نفعا ؛ فإن إطلاق أيدي الحكام ليصدروا أي شئ لتنفيذه بوسيلة القوة-أمر لا تطيقه ولا تحتمله الجماهير.
ولو أننا خولنا سلطة التشريع لرجال المجتمع ، فهم أكثر جهالة وحمقا ؛ لأن المجتمع-أي مجتمع- إذا نظرنا إليه ككل ، لا يتمتع بالعلم والعقل والتجربة ، وهي أمور لابد منها عند التشريع. فهذا العمل يتطلب مهارة فائقة وعلما وخبرة ، وهو ما لا تستطيع العامة من الجماهير الحصول عليه ؛ كما أنها وإن أرادت لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات القانونية وفهمها.
ولخروج من هذه المشكلة توصل رجال القانون إلي حل وسط ، وهو أن يقوم (البالغون) من أفراد المجتمع بانتخاب ممثلين لهم وهؤلاء بدورهم يصدرون التشريعات باسم الشعب.
ومن الممكن أن ندرك حماقة هذا الحل الوسط ، حين نج
د أن حزبا سياسيا لا يتمتع إلا بأغلبية 51% من مقاعد البرلمان يحكم علي حزب الأقلية الذي يمثل 49% من أفراد المجتمع البالغين. والأمر لا يقف عند هذا الحد ، بل إن هذا الحل يحتوي علي فراغ كبير جدا تنفذ منه (أقلية) لتحكم علي أغلبية السكان. وعلي سبيل المثال ، فإن الحكومة التي تحكم الهند الآن قد وصلت إلي مقاليد الحكم عن طريق الانتخابات العامة الخمسية الثالثة التي أجريت في البلاد عام1962. وقد فاز حزب (المؤتمر القومي) بنسبة70% من مقاعد البرلمان في حين أن نواب هذا الحزب لم يحصلوا إلا علي 40% من أصوات الشعب في الانتخابات. وهذا هو ما حدث في الانتخابات الخمسية الأولي والثانية التي أجريت قبل سنة1962(198)، وحصل حزب المؤتمر في كلتيهما علي أقل من 50% من مجموع الأصوات! ولكنه رغم ذلك كان له الحق في تشكيل الحكومة ، لأن أصوات الناخبين الأخرى كانت موزعة بين نواب الأحزاب (المعارضة) . ولم تكن بطولة حزب المؤتمر إلا في أنه أحرز أصواتا أكثر من أي حزب آخر (علي حدة)!
ولا أستثني من هذه القاعدة إلا الانتخابات المزعومة التي تجري في الدول الشيوعية ، فيفوز زعماؤها بأرقام خيالية للأصوات!
وهكذا نقف مرة أخري أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره.
والدين يستجيب لهذا التحدي الخطير ، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها. . إنه يقول : إن مصدر (التشريع) هو (الله) وحده خالق الأرض والكون ؛ فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته. وليس هناك من أحد غيره سبحانه يمكن تخويله هذا الحق.
إن هذا الجواب معقول وبسيط لدرجة أنه يصرخ قائلا ، لو استطعنا أن نسمع نداءه: هل هناك أحد غير الله سبحانه وتعالي يستطيع أن يسوى هذه المشكلة المصيرية؟
لقد وصلت بنا هذه الإجابة إلي مكانها الحقيقي من التشريع والمشرع ؛ بعد أن استحال علينا المضي خطوة ما في ظلام الضلالة عن الهدي الحقيقي.
أنه لا يمكن قبول إنسان حاكما ومشرعا للإنسان ؛ ولا يتمتع بهذا الحق إلا خالق الإنسان وحاكمه الطبيعي :الله.
ثانيا- العناصر الأساسية للتشريع:
ومن أهم الأسئلة لدي علماء القانون تحديد عناصر التشريع. . هل هي كلها إضافية ، أو أن هناك عنصرا أو عناصر أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في أي دستور عند تعديله ، أو تجديده أو تغييره؟ . .
لم يستطع خبراء التشريع الوصول إلي اتفاق في هذا الصدد ، رغم البحوث الطويلة التي أجريت في هذا الباب. وهم يسلمون نظريا بأنه لابد من عنصر في التشريع يتمتع بالدوام والأبدية ، مع عناصر أخري تتصف بالمرونة ، فيمكن الاستغناء عنها عند الضرورة.
ويرون أيضا أن افتقار الدستور إلي أحد العنصرين: (الأبدي والإضافي) سوف يكون مصدر شقاء دائم للبشرية. وقد عبر عن هذه الحالة أحد قضاة الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو القاضي كاردوزو Cardozoعلي النحو التالي:
(من أهم ما يحتاج إليه التشريع اليوم: أن نصوغ له فلسفة للتوفيق بين الرغبات المتحاربة حول ثبات عنصر وتغير عنصر آخر(199)).
ويقول خبير آخر في شئون القانون وهو البروفيسور (راسكو باوند):
(لابد من عنصر التحكم في التشريع ، ولكن هذا لا يعني أن يصبح التشريع جامدا. ولذلك بذل الفلاسفة قصارى جهودهم للتوفيق بين مقومات التحكم والتغيير في هذا المجال(200)).
والحق أنه لا يمكن التوصل إلي أساس يميز بين عناصر القانون الذي وضعه الإنسان بعضها وبعض فكل عنصر يدعي أنه صالح للدوام يلزمه أن يقدم دليلا علي ذلك ؛ وهو عاجز تماما عن الإتيان بذلك الدليل ؛ فقد نري اليوم عنصرا من الدستور يصاغ بناء علي رغبات الشعب ، فقد لا يعجبهم ذلك أو يرونه قد فقد صلاحيته بمضي الزمن.
* * *
ثالثا- تحديد مفهوم الجريمة:
ومما لابد أن يتوفر لأي دستور أن يكون لديه دليل معقول يستند إلي ، لاعتبار عمل ما (جريمة). ويقول الدستور الذي وضعه الإنسان: إن الجريمة هي (كل عمل يضر بالأمن العام أو نظام الحكم القائم) ، والتشريع الإنساني لا يجد أساسا غير هذا لاعتبار عمل ما جريمة. وقد دفع هذا الأساس القانون الجديد إلي إقرار أن جريمة (الزنا) ليست بجريمة ، إلا إذا تمت جبرا أو إكراها لأحد الطرفين. فالقانون الجديد لا يعتبر (الزنا) جريمة ، وإنما الجريمة الحقيقية عنده هي الجبر والإكراه الذي سبق (الزنا).
إن الاستيلاء علي أموال أحد المواطنين حرام ؛ وكذلك إهدار عصمتهم والنيل من عفتهم. ولكن أموال إنسان من الناس تصبح مباحة لرجل آخر ، إذا تم ذلك برضاء (الطرف الأول) –صاحب المال! وكذلك يري القانون أن عصمة أحد الطرفين تباح للثاني ما دام راضيا ، فعند رضا الجانبين يصبح القانون حاميا لهما ومدافعا عنهما ؛ ولو حاول (طرف ثالث) التدخل في الأمر فهو الذي سوف يعد مجرما وليس الطرفان الأولان!
إن جريمة (الزنا) تفشي فسادا كبيرا في المجتمع فهي تخلق مشكلات أطفال الحرام (غير الشرعيين) ، وتضعف روابط الزواج ؛ وهي كذلك تصدر عن عقلية تفضل اللذات السطحية في الحياة وتربي عقلا خائنا وتخلق السرقة واللصوص وتروج الاغتيالات والانتحار والخطف ؛ ومن ثم تفسد المجتمع كله ولكن القانون –رغم ذلك- لا يستطيع تحريمها فهو لا يجد أساسا لتحريم (الزنا) الذي تم بالرضا المتبادل! !
* * *
ولم يستطع القانون الجديد أن يحرم (الخمر) لأنه يؤمن بأن الأكل والشرب حق من الحقوق الطبيعية للإنسان ، وهو حر في اقتناء ما يريد أن يأكله ويشربه ؛ وليس للقانون أن يتدخل في حقوق الطبيعة ، ومن ثم لم يكن شرب الخمر والسكر الذي يتبعه جريمة في الواقع ، إلا إذا اعتدي شارب الخمر علي أحد المواطنين في هذه الحالة من
السكر ؛ أو خرج إلي الشارع وهو سكران ؛ فالجريمة ليست هي حالة السكر بل الاعتداء علي الآخرين في تلك الحالة!
والخمر تضر بالصحة ، وتبدد أموال الناس ، وتؤدي بمدمنيها إلي كوارث اقتصادية محققة ، وتضعف الشعور الأخلاقي ، حني إن الإنسان يتحول إلي حيوان رويدا رويدا. والخمر خير مساعد للمجرمين ، فهي تشل الإحساسات اللطيفة ، حتى يستطيع الإنسان اقتراف أية جريمة من السرقة والقتل ، وهدر العصمة. ولكن القانون الإنساني رغم هذه المعايب الشنيعة-لن يتمكن من تحريم الخمر ، لأنه لا يجد جوابا يسوغ تدخله في حق من حقوق الإنسان الطبيعية! !
ولن نجد حلا لهذه المشكلة إلا في قانون الله ، إن قانونه يبين رضا حاكم الكون ؛ فإن كون أي قانون قانون الله يحمل معه أولوية تنفيذه ، ولا يحتاج بعد ذلك دليلا آخر. وهكذا يسد القانون الإلهي فجوة عميقة ، نتمكن بعدها من إحالة أي عمل إلي دائرة القانون.
* * *
رابعا- القانون والأخلاق :
لا يستطيع القانون أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات ، بل لابد له أن يقترن بالأخلاق. ولتوضيح هذه النقطة نقول:
1- لو طرحت قضية أمام القانون-علي سبيل المثال- وتعمد الفريقان وشهودهما الكذب فلم يتبين الصدق أمام القاضي ، فسوف يقضي علي العدل ، ولن يتمكن القاضي من الحصول عليه مهما حاول. ولذلك كان لابد من قانون آخر (وراء القانون) يحرك الناس ، ويحملهم علي الإدلاء بالبيانات الصادقة للوصول إلي العدل. وقد اعترفت جميع محاكم العالم بهذا المبدأ ، حتى إنها تلزم كل شاهد (أن يقسم بالله أن يقول الحق) قبل الإدلاء بشهادته. . وهو دليل واضح علي أهمية المعتقدات الدينية ، حتى أصبحت أيمان المحاكم أضحوكة ، تقليدا لا يأتي بنفع أي نفع!
2- ومما لابد منه أن يكون أي (عمل) يعاقب عليه القانون (جريمة) في نظر المجتمع أيضا ، وأي بند من قانون مكتوب لا يمكنه أن يخلق نفسية في المجتمع ، تري في عمل ما جريمة ، كما يراه القانون ؛ إذ لابد من أن يشعر مرتكب الجريمة بأنه (مذنب) ويعتبره المجتمع مذنبا. ويقبض عليه رجال الشرطة بكل اقتناع ، ثم يصدر قاضي المحكمة-وهو في غاية الاطمئنان-حكما ضد ذلك الرجل. ولذلك كان لابد أن تكون كل جريمة (ذنبا) أيضا. وهذا هو ما يراه أصحاب المدرسة التاريخية من رجال القانون:
(إن أي تشريع لن يصيب هدفه إلا إذا كان مطابقا للاعتقادات السائدة عند المجتمع الذي وضع له ذلك القانون ، ولو لم يطابق التشريع اعتقادات المجتمع فلابد من فشله(201))
هذا الرأي الذي عبرت عنه (المدرسة التاريخية) لرجال القانون غير صائب في مغزاه الحقيقي الذي يرمي إليه إطلاقا ، ولكنه ذو صدق خارجي.
* * *
3- إن خوف الشرطة والمحكمة لا يكفي لدرء الجرائم ، وإنما لابد أن يكون هناك وازع في المجتمع يمنع الناس من ارتكاب الجرائم ، لأن الرشاوى ، والمحسوبيات ، وخدمات المحامين البارعين ، وشهود الزور-كل هذه العوامل تكفي لحماية المجرم من أية شرطة أو محكمة إنسانية ، والمجرم لا يرهب عقابا ، أي عقاب ، لو استطاع أن يفلت من أيدي القانون.
إن الشرع الإلهي يستوفي كل هذه الأمور ، فعقيدة (الآخرة) ، التي يحملها الشرع الإلهي هي خير وازع عن ارتكاب الجرائم ، وهي تكفي لتبقي إحساسا بالجريمة واللوم يعتمل في قرارة ضمير الإنسان لو أدلي بشهادة كاذبة أمام القاضي.
لقد أقيم في فناء محكمة (ويسترن سر كيت) نصب من حجر يذكر الناس بشاهد أدلي بشهادة زور في فناء الدار ، ثم قال :(وإذا، كنت كاذبا ، فليمتني الله ، هنا في الحال! ولم تكد هذه العبارة تخرج من فم الشاهد حتى سقط علي ساحة الأرض ، ومات في الحال(202)! !
وهناك وقائع أخري من هذا النوع حدثت لشدة إحساس أصحابها باللوم والذنب.
* * *
إن قرارات البرلمانات لن تخلق في الجماهير شعورا بشناعة فعل ما ، إلا إذا كانت معتمدة من القانون الإلهي ، وراسخة في معتقدات المجتمع.
والوازع الذي يمنع من ارتكاب الجرائم ليس هو الدين في حد ذاته ، فإنه لا يقدم لنا تشريعا فحسب ، وإنما يخبرنا أن صاحب هذا التشريع يشاهد كل أعمالنا من خير وشر. . فنياتنا وأقوالنا وحركاتنا بأكملها تسجل بواسطة أجهزة هذا الشرع ، ولسوف نقف بعد الممات أمامه ، ولن نستطيع أن نفرض ستارا علي أدني أعمالنا.
ولو أننا استطعنا الهروب من عقاب محكمة الدنيا ، فلن نتمكن بالتأكيد –من أن نفلت من عقاب صاحب التشريع السماوي.
ولو أننا حاولنا تفادي عقاب الدنيا. فسوف نذوق عذابا مضاعفا يوم القيامة ، يفوق عقاب الأرض ملايين المرات ، قسوة وعنفا.
* * *
خامسا – القانون والفرد :
ورد في التاريخ الإنجليزي أن الملك (جيمس الأول) أصدر مرسوما يقول بأنه (الملك) يستطيع أن يحكم البلاد مطلق العنان ، كما أن من حقه إصدار أحكام دون أن تخضع للمرافعة أو الاستئناف في المحاكم.
وكان رئيس القضاة حينئذ هو القاضي الشهير (اللورد كوك)Coke وكان شديد التمسك بالدين حتي اعتاد أن يقضي ربع يومه في الكنيسة وذهب اللورد كوك ليقول للملك (ليس من حقك أن تحكم في أي شئ ولابد لجميع القضايا أن تذهب إلي المحكمة للنظر فيها.)
فقال له الملك: (إنني أري- وهو ما سمعته- أن القوانين قد وضعت علي أساس العقل ، فهل أنا أقل من قضاتك عقلا؟ .
فأجابه رئيس القضاة: (أنه ما لا شك فيه أنكم تتمتعون بعلم وكفاءة مثاليين ، ولكن القانون يتطلب تجربة طويلة ودراسة عميقة. وفوق ذلك هو الميزان الذهبي الذي يزن حقوق الرعية ؛ وهو الذي يصون شخصيتهم.)
فغضب الملك بشدة وقال : (هل أنا أيضا أخضع للقانون ؟ إن هذا المقال بمثابة تمرد وخيانة!)
وكان جواب (اللورد كوك) أن ذكر الملك برأي (براكتون)Bracton الذي قال : (إن الملك لا يخضع لأحد من الناس ؛ ولكنه خاضع لله وللقانون (203).)
وهنا-ل جردنا القانون من (الله) فلن نجد أساسا معقولا للقول بأن : ( الملك خاضع للقانون)- لأن الذين صاغوا القانون ، وأصدروه بإرادتهم يستطيعون-في الوقت نفسه- تعديله وتغييره إذا ما أرادوا ذلك ، فكيف –إذن- سيخضعون لذلك القانون(204) ؟. .
إن الإنسان إذا كان هو المشرع ، فهل يحل محل القانون والإله معا ، وحينئذ يستحيل احتواؤه داخل دائرة القانون ، بأي صورة من الصور.
وقد أدي هذا العيب في القوانين الحديثة إلي أنه-علي الرغم من أن كل الجمهوريات تقر مبدأ المساواة المدنية-فإن هذه المساواة لا تنفذ فعلا في أية دولة ، فلو أنك كنت تريد أن تحاكم رئيس جمهورية الهند ، أو أحد حكام الولايات ، فلن تستطيع ذلك ، كما تستطيع أن تحاكم المدنيين العاديين ، إذ كان لابد لك من الحصول علي موافقة الدولة. قبل الذهاب إلي المحكمة ، فقد أضفي الدستور الهندي (في المادة361) علي رئيس الجمهورية ونائبه وحكام الولايات هالة وامتيازا ، بحيث لا تمكن محاكمتهم إلا بعد موافقة البرلمان المركزي. وكذلك لابد من الحصول علي موافقة الحكومة لمحاكمة الوزراء!
والأمر لا يقف بنا عند هذا الحد ، بل تنص المادة197 ، من (لوائح العقوبات الهندية) علي: (أن قاضيا ، أو وكيلا للنيابة العامة ، أو أحد الموظفين الحكوميين (من الذين لا يجوز فصلهم من الخدمة إلا بعد موافقة الحكومة المركزية) لو اتهم أحدهم بارتكاب جريمة ما ، فليس من شأن المحاكم النظر في قضية أحدهم ، إلا بعد الحصول علي موافقة الحكومة المركزية أو المحلية. التي تتعلق بها وظيفة المتهم المطلوب محاكمته) ! !
وبكلمة أخري: لو أردت أن تحاكم سياسيا كبيرا ، أو أحد أعضاء السلطة التنفيذية العليا-فعليك أن تسأل هؤلاء أنفسهم : (هل تبيحون لنا محاكمتكم؟ ) !
وليس هذا عيب الدستور الهندي بالمرة ، بل هو عيب القانون البشري بعامة ، وهو عيب موجود ، حيث يوجد هذا النوع من الدساتير الوضعية.
ليس من الممكن أن يتحقق العدل الكامل إلا في ظل القانون الإلهي ، حيث يكون كل إنسان مساويا للآخرين أمام الدستور, وحيث تمكن مقاضاة أية سلطة سياسية وتنفيذية ، كما يحاكم ابن الشعب ، لأن الحاكم في هذا القانون هو (الله) سبحانه وحده ، والمحكومون هم سائر أفراد المجتمع دون أدني تمييز(205). .
* * *
سادسا- القانون والعدل :
إن أهم وأكبر أساس في هيكل القانون هو العدل) الذي يبحث عنه خبراء القانون من قرون طويلة ، وهو موجود في القانون الإلهي في أتم الصور وأكملها. والقول بأن : عدم اهتداء الإنسان إلي أساس العدل يرجع إلي أن بحوثنا لا زالت ناقصة ، وتتطلب المزيد من البحث- قول باطل. فهذا الكلام يثبت أنه ليس في مستطاع الإنسان أن يحصل علي هذا الأساس أبدا.
لقد قطعنا شوطا كبيرا في مضمار البحوث الطبيعية بنتائج باهرة في كل مجال ، ولكنا رغم جهودنا المضاعفة في البحث عن القوانين المدنية ، لم نحرز نجاحا ، ولو بنسبة واحد في المائة من الدرجة المطلوبة. وهذه الخيبة تؤكد أن إخفاقا لا يرجع إلي نقص الجهود ، وإنما سببه الحقيقي أن هذا الأمر خارج-علي الإطلاق-عن نطاق بحث الإنسان.
* * *
لقد صور الإنسان أول صورة فوتوغرافية في عام 1826م. وقد بذل العالم الفرنسي الذي اخترع الجهاز ، ثماني ساعات متواصلة لتصوير شرفة المنزل. . والآن تستطيع آلات تسجيل الأفلام أن تصور أكثر من ألفي صورة في الثانية الواحدة ، ومعني ذلك أننا نستطيع اليوم أن نصور أكثر من ستين مليون صورة ، في نفس الوقت الذي استغرقته عملية التصوير الأولي ، أي أ، سرعتنا قد زادت ستين مليون مرة ، في 140 سنة فقط! !
وعند بدء هذا القرن العشرين لم يكن يوجد في شوارع الولايات المتحدة غير أربع سيارات ، علي حين تمرق الآن علي شوارعها الفسيحة عشرة ملايين سيارة.
ويمضي الإعجاز العلمي بالإنسان إلي أن يقسم الزمن إلي1/1,000,000 جزء من أجزاء الثانية! وتستطيع المراصد العلمية أن تكشف عن أدني فارق في حركة دوران الأرض- حتى ولو بلغ في مدته1/1.000.000!
لقد اخترعنا آلات حساسة يمكنها الكشف عن فارق الوزن الذي يطرأ علي كتابة (حرفين) بالحبر ، علي ورقة من أوراق موسوعة من ثلاثين مجدا !
هذه هي حال الإنسان في حقل البحث العلمي ، علي حين لم يتمكن من إحراز أي تقدم – ولو بمقدار (بوصة)-في مجال القوانين المدنية.
وسوف أورد هنا بعض الأمثلة من مختلف مجالات الحياة ، لنتبين مدي صدق القول: بأن الدستور الإلهي هو وحده الأساس الحقيقي ، الذي يصلح لأن يكون مصدرا لقوانين الحياة الإنسانية.
* * *
المرأة والمجتمع :
إن الإسلام لا ينظر إلي المرأة والرجل نظرة واحدة ، فهو يحرم العلاقات الحرة بينهما. وقد أخذ العلماء عند بدء العصر العلمي يسخرون من هذه القوانين ، وأطلقوا عليها: (مخلفات العصر الجاهلي).
وقالوا بشدة: إن الرجل المرأة متساويان ، ويرثان النسل الإنساني بطريقة متساوية ، ولسوف تكون جريمة كبري لو أقمنا العقبات في طريق في طريق علاقاتهما الحرة.
قد أنتجت هذه الفكرة مجتمعا جديدا في الغرب . بيد أن التجارب الطويلة المريرة التي مرت بها الإنسانية بعد هذه الإباحة الجنسية هي أقسي ما عاناه البشر ؛ فقد ثبت بعد هذه التجارب أن المرأة والرجل لا يتساويان فطريا ، ولا طبيعيا ، وأي مجتمع يقوم علي أساس مساواتهما سوف يسبب خرابا ودمارا عظيمين للحضارة البشرية.
* * *
(ا) إن أول حقيقة في هذا الأمر هي أن الرجل والمرأة يختلفان كل الاختلاف في نوعية كفاءاتهما الطبيعية ، واعتباراهما متساويين إنما هو مخالفة كبري لقوانين الطبيعة في حد ذاتها.
كتب الدكتور(الكسيس كيريل) الحائز علي جائزة نوبل للعلم- وهو يبين الفارق العضوي بين الرجل والمرأة- يقول:
(إن الأمور التي تفرق بين الرجل والمرأة لا تتحدد في الأشكال الخاصة بأعضائها الجنسية والرحم والحمل ، وهي لا تتحدد أيضا في اختلاف طرق تعليمهما ؛ بل إن هذه الفوارق هي ذات طبيعة أساسية ؛ من اختلاف الأنسجة في جسم كليهما ؛ كما أن (المرأة) تختلف عن (المرء) كليا في المادة الكيماوية التي تفرز من مبيض الرحم داخل جسمها. والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف بالرجل يجهلون هذه الفوارق الأساسية ، فيدعون أنه لابد أن يكون لهما نوع واحد من التعليم والمسئوليات والوظائف. ولكن المرأة في الواقع تختلف عن الرجل كل الاختلاف ؛ فكل خلية من جسمها تحمل طابعا أنثويا ، وهكذا تكون أعضاؤها المختلفة بل وأكثر من ذلك هذه هي حال نظامها العصبي.
إن قوانين وظائف الأعضاء محدودة ومنضبطة كقوانين الفلك ، حيث لا يملك إحداث أدني تغيير فيهما بمجرد الأمنيات البشرية ، وعلينا أن نسلم بها كما هي ، دون أن نسعى إلي ما هو غير طبيعي ، وعلي النساء أن يقمن بتنمية مواهبهن بناء علي طبيعتهن الفطرية ، وأن يبتعدن عن تقليد الرجال)(206).
ولقد صدقت التجارب العملية نتائج هذه الفوارق الطبيعية ، فقد فشلت المرأة في أن تحرز أية مساواة مع الرجل في أي ميدان . . حتى إن الرجل يتقدم المرأة في الميادين التي كانت تعتبر حكرا علي المرأة في الماضي. ومن ذلك أن المرأة فشلت في المساواة مع الرجل في حقل السينما. وليس الرجل هو الذي يدير اليوم كل ما هو متعلق بالسينما ، ومع ذلك فهو يتقاضى أجرا أكثر من المرأة . فممثل كبير يتقاضى اليوم ستة ملايين روبية(207) ، في السنة علي حين لا يزيد دخل أعظم ممثلة هندية علي أربعة ملايين روبية! !
* * *
وليس هذا هو كل ما في الأمر. . فإننا لو أنكرنا القوانين الطبيعية ، والضوابط الفلكية ، وبدأنا نعمل علي عكسها فسوف نكسر رؤوسنا بأيدينا . وهكذا جلب النظام الذي صاغه الإنسان – متجاهلا الحيثيات الفارقة بين الجنسين- صنوفا من الأمراض والجرائم إلي داخل المجتمع . إن شباب هذا المجتمع الجديد يشكو أنواعا من الأمراض الجنسية والخلقية والنفسية ، فضلا عن العصمة التي أهدرها المجتمع ، نتيجة هذا الاختلاط المروع.
ومن الظواهر التي تتكرر مرارا أمام أطباء هذا المجتمع أن تدخل فتاة غرفة الطبيب، وهى تشكو من الصداع وقلة النوم ، وتمضى بعض الوقت تتحدث عن هذه الآلام.. ثم لا تلبث تتحدث عن شاب التقت به منذ مدة .. وحينئذ يشعر الطبيب أنها تتعثر وتتلعثم فى كلامها فيقول لها :
“Well, then he asked you to his flat, what did you say?”
حسنا ثم دعاك إلى شقته فماذا قلت له ؟
وتقول الفتاة فى دهشة :
"كيف عرفت ذلك، لقد كنت أريد أن أقول لك ذلك حالا !"
ومن الممكن قياس كل ما ستقول الفتاة للصبيب بعد هذا الحديث . وهذا هو الذى دفع علماء الغرب إلى الشعور بخيبة الأمل فانتهوا إلى أن الحفاظ على العفة والعصمة كلام فارغ فى ظل مجتمع العلاقات الحرة وقد قال طبيب غربى :
( من الممكن أن يصل الرجل والمرأة إلى نقطة يستحيل عندها التحكم فى الأعصاب ، والإحساس بالعواقب)
وقد بدأت حملة شديدة ضد هذه الظواهر فى صورة المقالات والكتب . وبدأ علماء الغرب يشعرون بالكارثة التى تهدد حضارتهم ولكنهم رغم ذلك كله غير قادرين على فهم جذور الموقف
ولقد نشرت الطبيبة المعروفة (ماربون هيل ياارد) مقالا عنيفا ضد الإختلاط الحر ، فقالت : " إننى لا أستطيع أن أسلم كطبيبة بأن العلاقات الطاهرة ممكنة بين رجل وامرأة ينفردان برضاهما وقتا طويلا).
ولكن الدكتورة هيل يارد تستطرد قائلة : ( ولست على هذه الدرجة من الغباء ، حتى أنصح الشبان والفتيات أن يمتنعوا عن التقبيل . ولكن أكثرية الأمهات لا تخبرن أولادهن أن القبلة لا تبرد العواطف وإنما تلهبها ) (208)
وتسلم الدكتورة هيل يارد بهذا القول بالقانون الإلهى الذى يحرم هذه الظواهر ، حتى لا يصل الإنسان إلى حافة الجرائم الجنسية القبيحة؛ ولكن الطبيبة لا تعرف كيف تحرم هذه الظاهرة التى تنتهى إلى الأعمال الشيطانية لا محالة!؟
* * *
(ب) لقد أباح مشرع الإسلام ( تعدد الزوجات ) وأثيرت ضجة كبرى ضد هذا التشريع وأطلق عليه – هو الآخر – أنه تذكار العصر الجاهلى .ولكن جاءت التجارب العملية لتثبت أنه كان تشريعا مناسبا للطبيعة الإنسانية ، لأن سد باب تعدد الزوجات إنما هو فتح لعشرات الأبواب الفاجرة غير الشرعية .
وسوف أشير هنا إلى النشرة الإحصائية التى نشرتها هيئة الأمم المتحدة عام 1955 لقد أتبتت هذه النشرة بالأرقام والإحصائيات : أن العالم يواجه الآن مشكلة ( الحرام أكثر من الحلال) (More out than in
فى شأن المواليد ! . وجاء فى هذه الإحصائية أن نسبة الأطفال غير الشرعيين قد ارتفعت إلى ستين فى المائة. وأما فى بعض البلاد وعلى سبيل المثال بنما فقد جاوزت هذه النسبة الخمسة والسبعين فى المائة ، أى أن ثلاثة عن طريق الحرام من كل أربعة مواليد ! وأرفع نسبة لهؤلاء الأطفال غير الشرعيين موجودة فى أمريكا اللاتينية .
وتثبت هذه النشرة أيضا أن نسبة الأطفال غير الشرعيين تصل إلى العدم فى البلدان الإسلامية. وتقول النشرة أن نسية هؤلاء الأطفال أقل من واحد فى المائة فى جمهورية مصر العربية مع أنها أكثر البلاد الإسلامية تأثرا بالحضارة الغربية .
فما الأسباب التى تحمى الدول الإسلامية من هذه البلية ؟ يقول محرروا هذه النشرة الإحصائية ( إن البلدان الإسلامية محفوظة من هذا الوباء لأنها تتبع نظام تعدد الزوجات ( 209)
لقد استطاع هذا القانون الإلهى الحكيم أن يحمى بلادنا الإسلامية من كارثة محققة فى هذا العصر .
فقد أكدت التجارب الإنسانية أن القانون الإلهى القديم هو الذى كان مبنيا على الحق والرحمة بالإنسانية ( 110)
* * *
التمــــدن :
شرع الإسلام القصاص ممن قتل عمدا، إلا أن يرضى ورثة القتيل بالدية . ولقد تعرض هذا القانون لنقد شديد من جانب رجال القانون فى العصر الحاضر ، وأهم ما يستدلون به : أن معنى هذا التشريع أن تضيع نفس أخرى بعد أن ضاعت الأولى بالفعل ؛ ودفعهم هذا إلى إلغاء نظام الإعدام شنقا فى كثير من البلاد .
إن القانون الذى يقرره الإسلام له فائدتان هامتان :
أولاهما : أن تستأصل جذور هذه الجريمة ، لأن أحدا من الآخرين لن يندفع إلى ارتكابها مرة أخرى نظرا للعاقبة الوخيمة التى لقيها أحد أفراد المجتمع ( 211)
وأما الثانية : فهى الدية وقد راعى المشرع النتائج راعاة تامة ، فلو قتل الإبن الوحيد لشيخ فعلى القاتل أن يدفع لوالد المقتول مبلغا من المال يرضيه فيعفو عن الجريمة لقاء المبلغ الذى تقاضاه . وقد جعل التشريع الإسلامى حقا للدولة أن ترفع مبلغ الدية إخمادا لنار الثأر .
إن هذا التشريع حكيم لدرجة عظيمة وتجربته تؤكد أن غريزة القتل قد قضى عليها فى أى بلاد طبقته ، كما أكدت التجارب أيضا أن أى بلاد ألغت هذا التشريع قفزت فيها جرائم القتل إلى نسب خيالية حتى إن نسبة الإغتيالات قد ارتفعت فى بعض هذه الدول إلى 12 بالمائة .
وهناك أمثلة أخرى عديدة : بلاد ألغت عقوبة القصاص ، ولكنها عادت فأقرته مرة أخرى نظرا للعواقب . فقد أصدر البرلمان السيلانى قانونا سنة 1956 يحرم القصاص فى حدود سيلان .. فارتفعت نسبة جرائم القتل ارتفاعا مخيفا بعد صدور القانون ولم يستيقظ السيلانيون من سباتهم إلا يوم 26 سبتمبر 1959 ، عندما تسلل رجل مسلح داخل منزل رئيس الوزراء السيد بندرانيكا وقتله بكل جرأة فى غرفته ، وكان أول ما فعله أعضاء البرلمان السيلانى بعد دفن رئيس الوزراء المأسوف عليه أن عقدوا جلسة طارئة استغرقت 4 ساعات أعلنوا عند ختامعا أن سيلان قررت إلغاء القانون وإصدار قانون جديد بتشريع القصاص .
* * *
المعيشــــة :
إن النظام الذى يقرره الإسلام فى المعيشة يسلم بالملكية الفردية لوسائل الإنتاج الزراعى ، وهيكل المعيشة فى الإسلام يقوم على أساس الملكية الفردية . وقد راج هذا النظام عصورا طويلة فى العالم ( 212 ) ثم تعرض بعد الثورة الصناعية لنقد قاس ؛ حتى إن المثقفين رضوا بإلغائه .
وقد راج فى أوربا ، فيما بين النصف الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين شعور بأن الملكية الفردية أحد القوانين المجرمة التى تفشت فى عصر الجاهلية المظلم .. وأنهم قد استطاعوا الآن أن يكشفوا عن نظام الملكية الجماعية التى هى أقوى أساس لتنظيم المعيشة .
ثم بدأت أول تجربة للنظرية الجديدة – الملكية الجماعية ؛ ونفذت على رقعة واسعة من الأرض ، وبدأت دعاية كبيرة فى شأنها وعقدت عليها آمال كبار ، ولكن التجربة الطويلة أثبتت أن هذا النظام رغم الجهود الضخمة التى بذلت فى سبيله لم يأت إلا بإنتاج أقل من الإنتاج الذى يأتى به نظام الملكية الفردية .
هذا ، فضلا عن نقائصه الكثيرة التى تتلخص فى كونها غير طبيعية ، إلى استخدام العنف فى تنفيذها ؛ وأنها تمنع التقدم الإنسانى وأنها أكثر من الأنظمة الرأسمالية تركيزا واستغلالا وديكتاتورية.
وسوف أضرب هنا مثالا لروسيا ؛ لقد نفذت الحكومة الروسية نظام الملكية الجماعية فى جميع أنحاء البلاد ؛ والدولة تملك جميع الأراضى الزراعية ، فهى تقوم بزراعة أراضيها فى صورة المزارع الجماعية .
وقد منح القانون الزراعى الذى أصدرته الدولة عام 1935 الفلاح حقا بملكية الثلث أو نصف الفدان أو فدادين فى بعض الأحوال الإستثنائية وسمح له أن يربى بعض الأنواع من الحيوانات مثل الأبقار والأغنام والدجاج .
وتثبت الإحصائية الرسمية التى نشرت عام 1961 أن الأراضى الزراعية فى روسيا كانت 204 مليون هكتار ، منها أراض قدرها ستة ملايين هكتار فى حوزة الملكية الفردية أى ثلاثة فى المائة من مجموع مساحة الأراضى الزراعية ، ولكن نسبة المحصول الزراعى للبطاطس عام 1961 كانت كما يلى :
المزارع الجماعية :
نسبة الأراضى المزروعة بالفدان 4352000
ونسبة المحصول بالطن 30800000
الأراضى الفردية :
نسبة الأراضى المزروعة بالفدان 4526000
ونسبة المحصول بالطن53500000
وتؤكد هذه الإحصائية أن المحصول الزراعى كان 11 طن من البطاطس فى الأراضى الفردية مقابل 7 أطنان فى الأراضى الحكومية. وهذهالنسبة توجد كذلك فى المحاصيل الأخرى ، على حين أن الأراضى الفردية لا تتمتع بتسهيلات الآلات الزراعية والسماد والكفاءات التى تتمتع بها المزارع الجماعية الحكومية .
وأما الماشية فهى أسوأ حالا فى المؤسسات الحكومية الحيوانية فهى تموت بكثرة بسبب نقص الكلأ والإستهتار فى الرعاية ؛ وقد مات 170 ألف من الرؤوس فى إقليم واحد فى مدة 11 شهر عام 1962
وأما حيوانات الملكية الفردية فهى آخذة فى الإزدياد والنمو رغم العقبات العديدة وهى كذلك أكثر إنتاجا من غيرها . فالمؤسسات الحكومية التى تملك 70 فى المائة من من الحيوانات والدجاج لم تقدم للسوق من اللحوم إلا ما يزيد على عشرة فى المائة بالنسبة إلى أصحاب الملكية الفردية ، الذين لا يملكون أكثر من 30 بالمائة من الحيوانات والدجاج ، ويقدمون إنتاجهم للحكومة ، وهو ما يتبقى لديهم بعد استهلاكهم الذاتى . وقد تخلفت المؤسسات الزراعية كثيرا فى إنتاج البيض . ويمكن استنتاج هذه الفوارق من إحصائية رسمية لعام 1961 :
المحصول ////// النسبة الحكومية بالطن ///// النسبة الفردية بالطن
اللحم ----- 4800000 --------- 3900000
اللبن ------ 3400000 ----------- 28500000
الصوف ----- 387000 ------------ 97000
البيض ----- 6,300 مليون بيضة---79,000 مليون بيضة
إنه لمن الطريف أن يقوم الأفراد بسد حاجات حكومة تملك ، بل وتحتكر كل وسائل الإنتاج !
إن الإحصائية تدلنا على أن إحدى الجمهوريات السوفييتية حصلت من الأفراد على 26 فى المائة من البطاطس وأربعة وثلاثين فى المئة من البيض , لسد احتياجاتها المحلية , وهكذا اضطرت إلى شراء أشياء أخرى مماثلة من الأفراد لاستهلاكها محليا ( 213)
ومن العواقب الوخيمةلهذه الملكية الجماعية أن روسيا – التى كانت بين الدول الخمسة المصدرة لإنتاجها الزراعى فى عهد القياصرة _ اضطرت إلى شراء 15 مليونا من أطنان القمح من كل من : استراليا وكندا , والولايات المتحدة الأمريكية . وهذه الحال مستمرة فى التدهور , فقد اشترت روسيا 1250000 طنا من القمح من الولايات المتحدة فيما بين 1941 و 1956 .. وهذا هو الذى يجرى فى الصين الشيوعية ( 214)
* * *
وتؤكد هذه التجارب القاسية التى خاضتها البشرية أن العقل الإلهى – الذى هو منبع القانون الحقيقى – هو أعرف بالطبيعة الإنسانية ، وأكثر فهما لمسائلها ومشكلاتها.
* * *
وهكذا يعطينا الدين كل ما نحتاج إليه لبناء الحضارة فى حين لا يتيح لنا الإلحاد والكفر شيئا ما سوى الضياع والفاقة فهو عقيم لا يجدى نفعا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق